أنَّه شاعرٌ ، وأنَّه كاتبٌ ، وأنَّه راويةٌ مطّلعٌ على الفلسفة والنجوم إلاّ أن تجيئه الوزارة ساعية إليه تخطب ودّه ، كما جاءت إلى أناس كثيرين لا يعلمون علمه ، ولا يبلغون في البلاغة مكانه؟! ألم يصل ابن الزيّات إلى الوزارة بكلمة واحدة فسّرها للمعتصم وفصّل له تفسيرها ، وهي كلمة الكلأ التي يعرفها عامّة الأدباء؟ بلى ، وابن الرومي كان يعرف من غرائب اللغة ما لم يكن يعرفه شعراء عصره ولا أدباؤه ، فما أولاه إذن بالوزارة! وما أظلم الدنيا إن هي ضنّت عليه بحقّه من المناصب والثراء!
فإذا لم تكن الوزارة ، فهل أقل من الكتابة أو العمالة لبعض الوزراء والكتّاب المبرّزين؟ فإذا لم يكن هذا ولا ذاك ، فهل غبنٌ أصعب على النفس من هذا الغبن؟ وهل تقصيرٌ من الزمان ألأم من هذا التقصير؟
ونبوءة أبيه ورجاؤه في مستقبله وقوله : أنت للشرف ، أيذهب هذا كلّه هباءً لا يقبض منه اليدين على شيء؟ تلك النبوءات التي تنطبع على أفئدة الصغار بمثل النار ، ولا تزال غرارة الطفولة وأحلام الصبا تزخرفها وتوشّيها وتعمّق في الضمير أغوارها ، أيأتي الشباب وهي محوٌ لغوٌ مطموسٌ لا يبين ، أَوَلا يبين منه إلاّ ما ينقلب إلى الأضداد ، وتترجمه الأيّام بالسقم والفقر والكساد؟ وكيف يُمحى إلاّ وقد مُحي القلب الذي طبعت فيه؟ وكيف ينعكس معناه إلاّ وقد انعكس في القلب كلّ قائم والتوى فيه كلّ قويم؟ ذلك صعبٌ على النفوس وليس بالسهل ، إلاّ على من يلهو به وهو بعيدٌ.
وهكذا كان ابن الرومي يسأل نفسه مرّة بعد مرّة ويوماً بعد يوم :
ما لي أُسَلُّ من القرابِ وأُغمَدُ |
|
لِمْ لا أُجرَّدُ والسيوفُ تُجرَّدُ |
لِمْ لا أُجرَّبُ في الضرائبِ مرّةً |
|
يا لَلرجالِ وإنّني لَمهنّدُ |
ولا يدري كيف يجيب نفسه على سؤاله ، لأنَّه لم يكن يدري أنّ فضائله كلّها لا تساوي فتيلاً بغير الحيلة والعلم بأساليب الدخول بين الناس ، وأنّ الحيلة وحدها