وإذا اختلف القولان بينه وبين أبناء عصره فأحجى بنا أن نصدّق كلامه هو في أبناء عصره قبل أن نصدّق كلامهم فيه ، لأنّهم كانوا يستبيحون إيذاءه ، ويستسهلون الكذب عليه لغرابة أطواره ، وتعوّد الناس أن يصدّقوا كلّ ما يُرمى به غريبُ الأطوار من التهم والأعاجيب ، في حين أنَّه كان يتحاشى عن تلك التهم ، ويغفر الإساءة بعد الإساءة مخافةً من كثرة الشكاية وعلماً منه بقلّة الإنصاف :
أتاني مقالٌ من أخٍ فاغتفرتُهُ |
|
وإن كان فيما دونه وجهُ معتب |
وذكّرتُ نفسي منه عند امتعاضِها |
|
محاسنَ تعفو الذنبَ عن كلِّ مُذنب |
ومثلي رأى الحُسنى بعينٍ جليّةٍ |
|
وأغضى عن العوراءِ غيرَ مؤنّب |
فيا هارباً من سُخطنا متنصِّلاً |
|
هربتَ إلى أنجى مفرٍّ ومهرب |
فعذرُكَ مبسوطٌ لدينا مقدَّمٌ |
|
وودُّك مقبولٌ بأهلٍ ومرحب |
ولو بلَّغَتْني عنك أذني أقمتُها |
|
لديّ مقام الكاشحِ المتكذِّب |
ولستُ بتقليبِ اللسانِ مصارماً |
|
خليلي إذا ما القلبُ لم يتقلّب |
فالرجل لم يكن شرّيراً ، ولا رديء النفس ، ولا سريعاً إلى النقمة ، فلما ذا إذن كثر هجاؤه ، واشتدّ وقوعه في أعراض مهجوّيه؟ نظنُّ أنَّه كان كذلك لأنَّه كان قليل الحيلة ، طيّب السريرة ، خالياً من الكيد والمراوغة والدسيسة ، وما شابه هذه الخلائق من أدوات العيش في مثل عصره ، فكان مستغرقاً في فنّه يحسب أنّ الشعر والعلم والثقافة وحدها كفيلةٌ بنجاحه وارتقائه إلى مراتب الوزارة والرئاسة ، لأنَّه كان في زمن يتولّى فيه الوزارة الكتّاب والرواة ، ويجمعون في مناصبهم ألوف الألوف ، ويحظوْن بالزلفى عند الأمراء والخلفاء ، وقد كان هو شاعراً كاتباً ، وكان خطيباً واسع الرواية ، مشاركاً في المنطق والفلَك واللغة ، وكلّ ما تدور عليه ثقافة زمان ، أو كما قال المسعودي : كان الشعر أقلّ أدواته.
وكان الشعر وحده كافياً لجمع المال وبلوغ الآمال ؛ فما ذا بعد أن يعرف الناس