ونظم الكلام على هذا الأسلوب بجعل (ما جِئْتُمْ) مسندا إليه دون أن يجعل مفعولا لفعل (سَيُبْطِلُهُ) ، وبجعله اسما مبهما ، ثم تفسيره بجملة (جِئْتُمْ بِهِ) ثم بيانه بعطف البيان لقصد الاهتمام بذكره والتشويق إلى معرفة الخبر ، وهو جملة (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) ثم مجيء ضمير السحر مفعولا لفعل (سَيُبْطِلُهُ) ، كل ذلك إطناب وتخريج على خلاف مقتضى الظاهر ، ليتقرر الإخبار بثبوت حقيقة في السحر له ويتمكّن في أذهان السامعين فضل تمكن ويقع الرعب في نفوسهم.
وقوله : (السِّحْرُ) قرأه الجمهور بهمزة وصل في أوله هي همزة (ال) ، فتكون (ما) في قوله : (ما جِئْتُمْ بِهِ) اسم موصول ، والسحر عطف بيان لاسم الموصول. وقرأه أبو عمرو ، وأبو جعفر ألسحر بهمزة استفهام في أوله وبالمد لتسهيل الهمزة الثانية ، فتكون (ما) في قوله : (ما جِئْتُمْ بِهِ) استفهامية ويكون (آلسحرَ) استفهاما مبينا ل (ما) الاستفهامية. وهو مستعم في التحقير. والمعنى : أنه أمر هين يستطيعه ناس كثيرون.
و (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) خبر (ما) الموصولة على قراءة الجمهور ، واستئناف بياني على قراءة أبي عمرو ومن وافقه وتأكيد الخبر ب (إن) زيادة في إلقاء الرّوع في نفوسهم.
وإبطاله : إظهار أنه تخييل ليس بحقيقة ، لأن إظهار ذلك إبطال لما أريد منه ، أي أن الله سيبطل تأثيره على الناس بفضح سره ، وأشارت علامة الاستقبال إلى قرب إبطاله ، وقد حصل ذلك العلم لموسى ـ عليهالسلام ـ بطريق الوحي الخاص في تلك القضية ، أو العام باندراجه تحت قاعدة كلية ، وهي مدلول (إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ).
فجملة : (إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) معترضة ، وهي تعليل لمضمون جملة (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) ، وتذييل للكلام بما فيه نفي الإصلاح. وتعريف (الْمُفْسِدِينَ) بلام الجنس ، من التعميم في جنس الإصلاح المنفي وجنس المفسدين ليعلم أن سحرهم هو من قبيل عمل المفسدين ، وإضافة (عَمَلَ) إلى (الْمُفْسِدِينَ) يؤذن بأنه عمل فاسد ، لأنه فعل من شأنهم الإفساد فيكون نسجا على منوالهم وسيرة على معتادهم ، والمراد بإصلاح عمل المفسدين الذي نفاه أنه لا يؤيده. وليس المراد نفي تصييره صالحا ، لأن ماهية الإفساد لا تقبل أن تصير صلاحا حتى ينفى تصييرها كذلك عن الله ، وإنما إصلاحها هو إعطاؤها الصلاح ، فإذا نفى الله إصلاحها فذلك بتركها وشأنها ، ومن شأن الفساد أن يتضاءل مع الزمان حتى يضمحل.
ولما قدم قوله : (إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) علم أن المراد من نفي إصلاحه تسليط أسباب