وفعل الأمر في قوله : (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) مستعمل في التسوية المراد منها الاختيار وإظهار قلة الاكتراث بأحد الأمرين.
والإلقاء : رمي شيء في اليد إلى الأرض. وإطلاق الإلقاء على عمل السحر لأن أكثر تصاريف السحرة في أعمالهم السحرية يكون برمي أشياء إلى الأرض. وقد ورد في آيات كثيرة أنهم ألقوا حبالهم وعصيهم ، وأنها يخيّل من سحرهم أنها تسعى ، وكان منتهى أعمال الساحر أن يخيل الجماد حيا.
و (ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) قصد به التعميم البدلي ، أيّ شيء تلقونه ، وهذا زيادة في إظهار عدم الاكتراث بمبلغ سحرهم ، وتهيئة للملإ الحاضرين أن يعلموا أن الله مبطل سحرهم على يد رسوله.
ولا يشكل أن يأمرهم موسى بإلقاء السحر بأنه أمر بمعصية لأن القوم كانوا كافرين والكافر غير مخاطب بالشرائع الإلهية ، ولأن المقصود من الأمر بإلقائه إظهار بطلانه فذلك بمنزلة تقرير شبهة الملحد ممن يتصدى لإبطالها بعد تقريرها مثل طريقة عضد الدين الإيجي في كتابه «المواقف».
وقد طوي ذكر صورة سحرهم في هذه الآية ، لأن الغرض من العبرة في هذه الآية وصف إصرار فرعون وملئه على الإعراض عن الدعوة ، وما لقيه المستضعفون الذين آمنوا بموسى ـ عليهالسلام ـ من اعتلاء فرعون عليهم وكيف نصر الله رسوله والمستضعفين معه ، وكيف كانت لهم العاقبة الحسنى ولمن كفروا عاقبة السوء ، ليكونوا مثلا للمكذبين بمحمدصلىاللهعليهوسلم ولذلك لم يعرّج بالذّكر إلا على مقالة موسى ـ عليهالسلام ـ حين رأى سحرهم الدالة على يقينه بربّه ووعده ، وبأن العاقبة للحق. وذلك أهم في هذا المقام من ذكر اندحاض سحرهم تجاه معجزة موسى ـ عليهالسلام ـ ، ولأجل هذا لم يذكر مفعول (أَلْقُوا) لتنزيل فعل (أَلْقُوا) منزلة اللازم ، لعدم تعلق الغرض ببيان مفعوله.
ومعنى (جِئْتُمْ بِهِ) أظهرتموه لنا ، فالمجيء قد استعمل مجازا في الإظهار ، لأن الذي يجيء بالشيء يظهره في المكان الذي جاءه ، فالملازمة عرفية. وليس المراد أنهم جاءوا من بقاع أخرى مصاحبين للسحر ، لأنه وإن كان كثير من السحرة أو كلّهم قد أقبلوا من مدن عديدة ، غير أن ذلك التقدير لا يطرد في كل ما يعبر فيه بنحو : جاء بكذا ، فإنه وإن استقام في نحو (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) [يوسف : ١٨] لا يستقيم في نحو إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ) [النور : ١١].