استعارة تهكمية.
وليس مسوغها التهكم المحض كما هو الغالب في نوعها ، بل فيها علاقة المشابهة ، لأن إخراجه إلى البر كاملا بشكّته يشبه الإنجاء ، ولكنه ضد الإنجاء ، فكان بالمشابهة ، استعارة ، وبالضدية تهكما ، والمجرور في قوله : (بِبَدَنِكَ) حال.
والأظهر أن الباء من قوله : (بِبَدَنِكَ) مزيدة للتأكيد ، أي تأكيد آية إنجاء الجسد ، فيكون قوله : (بدنك) في معنى البدل المطابق من الكاف في (نُنَجِّيكَ) كزيادة الباء في قول الحريري : «فإذا هو أبو زيد بعينه ومينه».
والبدن : الجسم بدون روح وهذا احتراس من أن يظن المراد الإنجاء من الغرق. والمعنى : ننجيك وأنت جسم. كما يقال : دخلت عليه فإذا هو جثة ، لأنه لو لم يكن المقصود الاقتصار على تلك الحالة لما كان داع للبليغ أن يزيد ذلك القيد ، فإن كل زيادة في كلام البليغ يقصد منها معنى زائد ، وإلا لكانت حشوا في الكلام والكلام البليغ موزون ، ولغة العرب مبنية على أساس الإيجاز.
و (لِمَنْ خَلْفَكَ) أي من وراءك. والوراء : هنا مستعمل في معنى المتأخر والباقي ، أي من ليسوا معك. والمراد بهم من يخلفه من الفراعنة ومن معهم من الكهنة والوزراء ، أي لتكون ذاته آية على أن الله غالب من أشركوا به ، وأن الله أعظم وأقهر من فرعون وآلهته في اعتقاد القبط ، إذ يرون فرعون الإله عندهم طريحا على شاطئ البحر غريقا. فتلك ميتة لا يستطيعون معها الدجل بأنه رفع إلى السماء ، أو أنه لم يزل يتابع بني إسرائيل ، أو نحو ذلك من التكاذيب لأنهم كانوا يزعمون أن فرعون لا يغلب ، وأن الفراعنة حين يموتون إنما ينقلون إلى دار الخلود. ولذلك كانوا يموّهون على الناس فيبنون له البيوت في الأهرام ويودعون بها لباسه وطعامه ورياشه وأنفس الأشياء عنده ، فموته بالغرق وهو يتبع أعداءه ميتة لا تؤوّل بشيء من ذلك ، فلذلك جعل كونه آية لمن خلفه علة لإخراجه من غمرة الماء ميتا كاملا ، فهم مضطرون إلى الاعتراف بأنه غرق إذا نظروا في تلك الآية.
ولم يعدم فرعون فائدة من إيمانه ، فإن الله بحكمته قدر له الخروج من غمرات الماء ، فلم يبق في الماء أكلة للحيتان ولكن لفظته الأمواج ، وتلك حالة أقل خزيا من حالات سائر جيشه بها ظهر نفع ما له بما حصل لنفسه من الإيمان في آخر أحواله.