ولم تعطف بخلاف ما تقدم آنفا في قوله : (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) [هود : ٢٧].
وافتتاح مراجعته بالنداء لطلب إقبال أذهانهم لوعي كلامه ، كما تقدم في نظيرها في سورة الأعراف ، واختيار استحضارهم بعنوان قومه لاستنزال طائر نفورهم تذكيرا لهم بأنه منهم فلا يريد لهم إلّا خيرا.
وإذ قد كان طعنهم في رسالته مدلّلا بأنهم ما رأوا له مزية وفضلا ، وما رأوا أتباعه إلّا ضعفاء قومهم وإن ذلك علامة كذبه وضلال أتباعه ، سلك نوح ـ عليهالسلام ـ في مجادلتهم مسلك إجمال لإبطال شبهتهم ثم مسلك تفصيل لردّ أقوالهم ، فأما مسلك الإجمال فسلك فيه مسلك القلب بأنهم إن لم يروا فيه وفي أتباعه ما يحمل على التصديق برسالته ، فكذلك هو لا يستطيع أن يحملهم على رؤية المعاني الدالة على صدقه ولا يستطيع منع الذين آمنوا به من متابعته والاهتداء بالهدي الذي جاء به.
فقوله : (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) إلى آخره. معناه إن كنت ذا برهان واضح ، ومتصفا برحمة الله بالرسالة بالهدى فلم تظهر لكم الحجة ولا دلائل الهدى ، فهل ألزمكم أنا وأتباعي بها ، أي بالإذعان إليها والتصديق بها إن أنتم تكرهون قبولها. وهذا تعريض بأنهم لو تأملوا تأملا بريئا من الكراهية والعداوة لعلموا صدق دعوته.
و (أَرَأَيْتُمْ) ، استفهام عن الرؤية بمعنى الاعتقاد. وهو استفهام تقريري إذا كان فعل الرؤية غير عامل في مفرد فهو تقرير على مضمون الجملة السادة مسدّ مفعولي (رأيتم) ، ولذلك كان معناه آئلا إلى معنى أخبروني ، ولكنّه لا يستعمل إلّا في طلب من حاله حال من يجحد الخبر ، وقد تقدم معناه في قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً) (أَوْ جَهْرَةً) في سورة الأنعام [٤٧].
وجملة (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) إلى قوله تعالى (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) معترضة بين فعل (أَرَأَيْتُمْ) وما سدّ مسد مفعوليه.
والاستفهام في (أَنُلْزِمُكُمُوها) إنكاري ، أي لا نكرهكم على قبولها ، فعلق الإلزام بضمير البينة أو الرحمة. والمراد تعليقه بقبولها بدلالة القرينة.
والبينة : الحجة الواضحة ، وتطلق على المعجزة ، فيجوز أن تكون معجزته الطوفان ، ويجوز أن تكون له معجزات أخرى لم تذكر ، فإن بعثة الرسل ـ عليهمالسلام ـ لا تخلو من معجزات.