والمراد بالرحمة نعمة النبوءة والتفضيل عليهم الذي أنكروه ، مع ما صحبها من البيّنة لأنّها من تمامها ، فعطف (الرحمة) على (البينة) يقتضي المغايرة بينهما ، وهي مغايرة بالعموم والخصوص لأن الرحمة أعم من البينة إذ البينة على صدقه من جملة الرحمة به ، ولذلك لما أعيد الضمير في قوله : (فَعُمِّيَتْ) أعيد على (الرحمة) لأنها أعم.
و (عَلَيْكُمْ) متعلقة ب (عميت) وهو حرف تتعدى به الأفعال الدّالة على معنى الخفاء ، مثل : خفي عليك. ولما كان عمي في معنى خفي عدّي ب (على) ، وهو للاستعلاء المجازي أي التمكن ، أي قوة ملازمة البينة والرحمة له.
واختيار وصف الرب دون اسم الجلالة للدّلالة على أن إعطاءه البينة والرحمة فضل من الله أراد به إظهار رفقه وعنايته به.
ومعنى (فَعُمِّيَتْ) فخفيت ، وهو استعارة ، إذ شبهت الحجة التي لم يدركها المخاطبون كالعمياء في أنها لم تصل إلى عقولهم كما أن الأعمى لا يهتدي للوصول إلى مقصده فلا يصل إليه. ولمّا ضمّن معنى : الخفاء عدي فعل (عميت) بحرف (على) تجريدا للاستعارة. وفي ضد هذه الاستعارة جاء قوله تعالى : (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) [الإسراء : ٥٩] ، أي آتيناهم آية واضحة لا يستطاع جحدها لأنها آية محسوسة ، ولذلك سمّي جحدهم إياها ظلما فقال : (فَظَلَمُوا بِها) [الإسراء : ٥٩].
ومن بديع هذه الاستعارة هنا أن فيها طباقا لمقابلة قولهم في مجادلتهم (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً) ـ (وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ) ـ (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) [هود : ٢٧]. فقابل نوح ـ عليهالسلام ـ كلامهم مقابلة بالمعنى واللفظ إذ جعل عدم رؤيتهم من قبيل العمى.
وعطف (عميت) بفاء التعقيب إيماء إلى عدم الفترة بين إيتائه البينة والرحمة وبين خفائها عليهم. وهو تعريض لهم بأنهم بادروا بالإنكار قبل التأمل.
وجملة (أَنُلْزِمُكُمُوها) سادة مسد مفعولي (أَرَأَيْتُمْ) لأن الفعل علّق عن العمل بدخول همزة الاستفهام.
وجواب الشرط محذوف دلّ عليه فعل (أَرَأَيْتُمْ) وما سدّ مسد مفعوليه. وتقدير الكلام : قال يا قوم إن كنت على بيّنة من ربي إلى آخره أترون أنلزمكم قبول البينة وأنتم لها كارهون.
وجيء بضمير المتكلم المشارك هنا للإشارة إلى أن الإلزام لو فرض وقوعه لكان له