قد اختلفوا فيما مضى فلم يكونوا أمّة واحدة ، ثم لا يدري هل يؤول أمرهم إلى الاتّفاق في الدّين فأعقب ذلك بأنّ الاختلاف دائم بينهم لأنّه من مقتضى ما جبلت عليه العقول.
ولمّا أشعر الاختلاف بأنه اختلاف في الدّين ، وأنّ معناه العدول عن الحق إلى الباطل ، لأنّ الحق لا يقبل التعدّد والاختلاف ، عقّب عموم (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) باستثناء من ثبتوا على الدين الحق ولم يخالفوه بقوله : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) ، أي فعصمهم من الاختلاف.
وفهم من هذا أنّ الاختلاف المذموم المحذّر منه هو الاختلاف في أصول الدّين الذي يترتّب عليه اعتبار المخالف خارجا عن الدين وإن كان يزعم أنّه من متّبعيه ، فإذا طرأ هذا الاختلاف وجب على الأمّة قصمه وبذل الوسع في إزالته من بينهم بكلّ وسيلة من وسائل الحقّ والعدل بالإرشاد والمجادلة الحسنة والمناظرة ، فإن لم ينجع ذلك فبالقتال كما فعل أبو بكر في قتال العرب الذين جحدوا وجوب الزكاة ، وكما فعل عليّ ـ كرّم الله وجهه ـ في قتال الحروريّة الذين كفروا المسلمين. وهذه الآية تحذير شديد من ذلك الاختلاف.
وأما تعقيبه بقوله : (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) فهو تأكيد بمضمون (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ). والإشارة إلى الاختلاف المأخوذ من قوله : (مُخْتَلِفِينَ) ، واللّام للتعليل لأنّه لمّا خلقهم على جبلّة قاضية باختلاف الآراء والنزعات وكان مريدا لمقتضى تلك الجبلّة وعالما به كما بيّناه آنفا كان الاختلاف علّة غائية لخلقهم ، والعلّة الغائية لا يلزمها القصر عليها بل يكفي أنها غاية الفعل ، وقد تكون معها غايات كثيرة أخرى فلا ينافي ما هنا قوله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] لأنّ القصر هنالك إضافيّ ، أي إلّا بحالة أن يعبدوني لا يشركوا ، والقصر الإضافي لا ينافي وجود أحوال أخرى غير ما قصد الردّ عليه بالقصر كما هو بيّن لمن مارس أساليب البلاغة العربية.
وتقديم المعمول على عامله في قوله : (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) ليس للقصر بل للاهتمام بهذه العلّة ، وبهذا يندفع ما يوجب الحيرة في التفسير في الجمع بين الآيتين.
ثم أعقب ذلك بقوله : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) لأنّ قوله : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) يؤذن بأنّ المستثنى منه قوم مختلفون اختلافا لا رحمة لهم فيه ، فهو اختلاف مضاد للرحمة ، وضدّ النعمة النقمة فهو اختلاف أوجب الانتقام.