ونداء الأسف مجاز. نزّل الأسف منزلة من يعقل فيقول له : احضر فهذا أوان حضورك ، وأضاف الأسف إلى ضمير نفسه لأن هذا الأسف جزئي مختص به من بين جزئيات جنس الأسف.
والألف عوض عن ياء المتكلم فإنها في النداء تبدل ألفا.
وإنما ذكر القرآن تحسّره على يوسف ـ عليهالسلام ـ ولم يذكر تحسره على ابنيه الآخرين لأن ذلك التحسّر هو الذي يتعلق بهذه القصة فلا يقتضي ذكره أن يعقوب ـ عليهالسلام ـ لم يتحسّر قط إلّا على يوسف ، مع أن الواو لا تفيد ترتيب الجمل المعطوفة بها.
وكذلك عطف جملة (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) إذ لم يكن ابيضاض عينيه إلا في مدة طويلة. فكل من التولّي والتحسر وابيضاض العينين من أحواله إلّا أنها مختلفة الأزمان.
وابيضاض العينين : ضعف البصر. وظاهره أنه تبدّل لون سوادهما من الهزال. ولذلك عبّر ب (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ) دون عميت عيناه.
و (مِنَ) في قوله : (مِنَ الْحُزْنِ) سببية. والحزن سبب البكاء الكثير الذي هو سبب ابيضاض العينين. وعندي أن ابيضاض العينين كناية عن عدم الإبصار كما قال الحارث بن حلزة :
قبل ما اليوم بيّضت بعيون الن |
|
اس فيها تغيض وإباء |
وأن الحزن هو السبب لعدم الإبصار كما هو الظاهر. فإن توالي إحساس الحزن على الدماغ قد أفضى إلى تعطيل عمل عصب الإبصار ؛ على أن البكاء من الحزن أمر جبليّ فلا يستغرب صدوره من نبيء ، أو أن التصبّر عند المصائب لم يكن من سنة الشريعة الإسرائيلية بل كان من سننهم إظهار الحزن والجزع عند المصائب. وقد حكت التوراة بكاء بني إسرائيل على موسى ـ عليهالسلام ـ أربعين يوما ، وحكت تمزيق بعض الأنبياء ثيابهم من الجزع. وإنما التصبر في المصيبة كمال بلغت إليه الشريعة الإسلامية.
والكظيم : مبالغة للكاظم. والكظم : الإمساك النفساني ، أي كاظم للحزن لا يظهره بين الناس ، ويبكي في خلوته ، أو هو فعيل بمعنى مفعول ، أي محزون كقوله : (وَهُوَ مَكْظُومٌ).