اللغات التي أنزلت بها التوراة والإنجيل ، فكان من جملة ما موّت لهم أوهامهم أن حسبوا أن للكتب بالإلهية لغة خاصة تنزل بها ثم تفسر للّذين لا يعرفون تلك اللّغة. وهذا اعتقاد فاش بين أهل العقول الضعيفة ، فهؤلاء الّذين يعالجون سرّ الحرف والطلسمات يموّهون بأنها لا تكتب إلا باللغة السريانية ويزعمون أنها لغة الملائكة ولغة الأرواح. وقد زعم السراج البلقيني : أن سؤال القبر يكون باللغة السريانية وتلقاه عنه جلال الدّين السيوطي واستغربه فقال :
ومن عجيب ما ترى العينان |
|
أن سؤال القبر بالسرياني |
أفتى بهذا شيخنا البلقيني |
|
ولم أره لغيره بعيني |
وقد كان المتنصرون من العرب والمتهودون منهم مثل عرب اليمن تترجم لهم بعض التوراة والإنجيل بالعربية كما ورد في حديث ورقة بن نوفل في كتاب بدء الوحي من «صحيح البخاري» ، فاستقرّ في نفوس المشركين من جملة مطاعنهم أن القرآن لو كان من عند الله لكان باللغة التي جاءت بها الكتب السالفة. فصارت عربيته عندهم من وجوه الطعن في أنه منزل من الله ، فالقصر هنا لرد كلامهم ، أي ما أرسلنا من رسول بلسان إلا لسان قومه المرسل إليهم لا بلسان قوم آخرين.
فموقع هذه الآية عقب آية (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) بيّن المناسبة.
وتقدير النظم : كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ، وأنزلناه بلغة قومك لتبيّن لهم الذي أوحينا إليك وما أرسلنا من رسول إلّا بلسان قومه ليبين لهم فيخرجهم من الظلمات إلى النور.
وإذا كانت صيغة القصر جارية على خلاف مقتضى الظاهر ولم يكن ردّا لمقالة بعض المشركين يكن تنزيلا للمشركين منزلة من ليسوا بعرب لعدم تأثرهم بآيات القرآن ، ولقولهم : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) وكان مناط القصر هو ما بعد لام العلّة. والمعنى : ما أرسلناك إلّا لتبيين لهم وما أرسلنا من رسول إلا ليبين لقومه ، وكان قوله : (إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) إدماجا في الاستثناء المتسلط عليه القصر ؛ أو يكون متعلقا بفعل (لِيُبَيِّنَ) مقدما عليه. والتقدير : ما أرسلناك إلا لتبين لهم بلسانهم ، وما أرسلنا من رسول إلا ليبين لقومه بلسانهم ، فما لقومك لم يهتدوا بهذا القرآن وهو بلسانهم ، وبذلك يتضح موقع التفريع في قوله : (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ).