استئناف بياني ناشئ عن جملة (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) فإن هلاك فئة كاملة شديدة القوة والمرة أمر عجيب يثير في النفوس السؤال : كيف تهلك فئة مثل هؤلاء؟؟ فيجاب بأن الله الذي قدر على خلق السماوات والأرض في عظمتها قادر على إهلاك ما هو دونها ، فمبدأ الاستئناف هو قوله : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ).
وموقع جملة (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) موقع التعليل لجملة الاستئناف ، قدم عليها كما تجعل النتيجة مقدمة في الخطابة والجدال على دليلها. وقد بيناه في كتاب «أصول الخطابة».
ومناسبة موقع هذا الاستئناف ما سبقه من تفرق الرماد في يوم عاصف.
والخطاب في (أَلَمْ تَرَ) لكل من يصلح للخطاب غير معيّن ، وكل من يظن به التساؤل عن إمكان إهلاك المشركين.
والرؤية : مستعملة في العلم الناشئ عن النظر والتأمل ، لأن السماوات والأرض مشاهدة لكل ناظر ، وأما كونها مخلوقة لله فمحتاج إلى أقل تأمل لسهولة الانتقال من المشاهدة إلى العلم ، وأما كون ذلك ملتبسا بالحق فمحتاج إلى تأمل عميق. فلمّا كان أصل ذلك كله رؤية المخلوقات المذكورة علق الاستدلال على الرؤية ، كقوله تعالى : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [سورة إبراهيم : ١٠١].
والحق هنا : الحكمة ، أي ضد العبث ، بدليل مقابلته به في قوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ* ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [سورة الدخان : ٣٨ ، ٣٩].
وقرأه حمزة ، والكسائي ، وخلف (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) بصيغة اسم الفاعل مضاف إلى (السَّماواتِ) وبخفض (وَالْأَرْضَ).
والخطاب في (يُذْهِبْكُمْ) لجماعة من جملتهم المخاطب ب (أَلَمْ تَرَ). والمقصود: التعريض بالمشركين خاصة ، تأكيدا لوعيدهم الذي اقتضاه قوله : (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) ، أي إن شاء أعدم الناس كلهم وخلق ناسا آخرين.
وقد جيء في الاستدلال على عظيم القدرة بالحكم الأعم إدماجا للتعليم بالوعيد وإظهارا لعظيم القدرة. وفيه إيماء إلى أنه يذهب الجبابرة المعاندين ويأتي في مكانهم في سيادة الأرض بالمؤمنين ليمكنهم من الأرض.