واقتراح يوسف ـ عليهالسلام ـ ذلك إعداد لنفسه للقيام بمصالح الأمة على سنة أهل الفضل والكمال من ارتياح نفوسهم للعلم في المصالح ، ولذلك لم يسأل مالا لنفسه ولا عرضا من متاع الدنيا ، ولكنه سأل أن يوليه خزائن المملكة ليحفظ الأموال ويعدل في توزيعها ويرفق بالأمة في جمعها وإبلاغها لمحالّها.
وعلّل طلبه ذلك بقوله : (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) المفيد تعليل ما قبلها لوقوع (إنّ) في صدر الجملة فإنه علم أنه اتصف بصفتين يعسر حصول إحداهما في الناس بله كلتيهما ، وهما : الحفظ لما يليه ، والعلم بتدبير ما يتولاه ، ليعلم الملك أن مكانته لديه وائتمانه إياه قد صادفا محلهما وأهلهما ، وأنه حقيق بهما لأنه متصف بما يفي بواجبهما ، وذلك صفة الحفظ المحقّق للائتمان ، وصفة العلم المحقق للمكانة. وفي هذا تعريف بفضله ليهتدي الناس إلى اتباعه وهذا من قبيل الحسبة.
وشبه ابن عطية بمقام يوسف ـ عليهالسلام ـ هذا مقام أبي بكر ـ رضياللهعنه ـ في دخوله في الخلافة مع نهيه المستشير له من الأنصار من أن يتأمر على اثنين. قلت : وهو تشبيه رشيق ، إذ كلاهما صدّيق.
وهذه الآية أصل لوجوب عرض المرء نفسه لولاية عمل من أمور الأمة إذا علم أنه لا يصلح له غيره لأن ذلك من النصح للأمة ، وخاصة إذا لم يكن ممّن يتهم على إيثار منفعة نفسه على مصلحة الأمة. وقد علم يوسف ـ عليهالسلام ـ أنه أفضل الناس هنالك لأنه كان المؤمن الوحيد في ذلك القطر ، فهو لإيمانه بالله يبث أصول الفضائل التي تقتضيها شريعة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب ـ عليهمالسلام ـ. فلا يعارض هذا ما جاء في «صحيح مسلم» عن عبد الرحمن بن سمرة قال : قال لي رسول الله صلىاللهعليهوسلم «يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها» ، لأن عبد الرحمن بن سمرة لم يكن منفردا بالفضل من بين أمثاله ولا راجحا على جميعهم.
ومن هذه الآية أخذ فقهاء المذهب جواز طلب القضاء لمن يعلم أنه أهل وأنه إن لم يولّ ضاعت الحقوق. قال المازري : «يجب على من هو أهل الاجتهاد والعدالة السعي في طلب القضاء إن علم أنه إن لم يله ضاعت الحقوق أو وليه من لا يحلّ أن يولى. وكذلك إن كان وليّه من لا تحلّ توليته ولا سبيل لعزله إلا بطلب أهله».
وقال ابن مرزوق : لم أقف على هذا لأحد من قدماء أهل المذهب غير المازري.