لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) [سورة الإسراء : ١٩]. ذلك أن شأن الأسباب أن تحصل عندها مسبباتها. وقد يتخلف ذلك بمعارضة أسباب أخرى مضادة لتلك الأسباب حاصلة في وقت واحد ، أو لكون السبب الواحد قد يكون سببا لأشياء متضادة باعتبارات فيخطئ تعاطي السبب في مصادفة المسبّب المقصود ، ولو لا نظام الأسباب ومراعاتها لصار المجتمع البشري هملا وهمجا.
والإغناء : هنا مشتق من الغناء ـ بفتح الغين وبالمدّ ـ ، وهو الإجزاء والاضطلاع وكفاية المهم ، وأصله مرادف الغنى ـ بكسر الغين والقصر ـ وهما معا ضد الفقر ، وكثر استعمال الغناء المفتوح الممدود في الإجزاء والكفاية على سبيل المجاز المرسل لأن من أجزأ وكفى فقد أذهب عن نفسه الحاجة إلى المغنين وأذهب عمن أجزأ عنه الاحتياج أيضا ، وشاع هذا الاستعمال المجازي حتى غلب على هذا الفعل ، فلذلك كثر في الكلام تخصيص الغناء بالفتح والمد بهذا المعنى ، وتخصيص الغنى ـ بالكسر والقصر ـ في معنى ضد الفقر ونحوه حتى صار الغناء الممدود لا يكاد يسمع في معنى ضد الفقر. وهي تفرقة حسنة من دقائق استعمالهم في تصاريف المترادفات. فما يوجد في كلام ابن بري من قوله : إن الغناء مصدر ناشئ عن فعل أغنى المهموز بحذف الزائد الموهم أنه لا فعل له مجرّد فإنما عنى به أن استعمال فعل غني في هذا المعنى المجازي متروك ممات لا أنه ليس له فعل مجرد.
ولذلك فمعنى فعل (أغنى) بهذا الاستعمال معنى الأفعال القاصرة ، ولم يفده الهمز تعدية ، فلعل همزته دالة على الصيرورة ذا غنى ، فلذلك كان حقه أن لا ينصب المفعول به بل يكون في الغالب مرادفا لمفعول مطلق كقول عمرو بن معديكرب :
أغني غناء الذاهب |
|
ين أعدّ للحدثان عدّا |
ويقولون : أغنى فلان عن فلان ، أي في أجزاه عوضه وقام مقامه ، ويأتون بمنصوب فهو تركيب غريب ، فإن حرف (عن) فيه للبدلية وهي المجاوزة المجازية. جعل الشيء البدل عن الشيء مجاوزا له لأنه حلّ محلّه في حال غيبته فكأنه جاوزه فسموا هذه المجاوزة بدلية وقالوا : إنّ (عن) تجيء للبدلية كما تجيء لها الباء. فمعنى (ما أُغْنِي عَنْكُمْ) لا أجزي عنكم ، أي لا أكفي بدلا عن إجزائكم لأنفسكم.
و (مِنْ شَيْءٍ) نائب مناب شيئا ، وزيدت (مِنْ) لتوكيد عموم شيء في سياق النفي ، فهو كقوله تعالى : (لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) [سورة يس : ٢٣] أي من الضرّ. وجوز