قوله هذا العبرة بقوله : (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) إلخ.
والأبواب : أبواب المدينة. وتقدم ذكر الباب آنفا. وكانت مدينة (منفيس) من أعظم مدن العالم فهي ذات أبواب. وإنما نهاهم أن يدخلوها من باب واحد خشية أن يسترعي عددهم أبصار أهل المدينة وحراسها وأزياؤهم أزياء الغرباء عن أهل المدينة أن يوجسوا منهم خيفة من تجسس أو سرقة فربما سجنوهم أو رصدوا الأعين إليهم ، فيكون ذلك ضرّا لهم وحائلا دون سرعة وصولهم إلى يوسف ـ عليهالسلام ـ ودون قضاء حاجتهم. وقد قيل في الحكمة : «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان».
ولما كان شأن إقامة الحراس والأرصاد أن تكون على أبواب المدينة اقتصر على تحذيرهم من الدخول من باب واحد دون أن يحذرهم من المشي في سكة واحدة من سكك المدينة ، ووثق بأنهم عارفون بسكك المدينة فلم يخش ضلالهم فيها ، وعلم أن (بنيامين) يكون في صحبة أحد إخوته لئلا يضل في المدينة.
والمتفرقة أراد بها المتعددة لأنه جعلها في مقابلة الواحد. ووجه العدول عن المتعددة إلى المتفرقة الإيماء إلى علة الأمر وهي إخفاء كونهم جماعة واحدة.
وجملة (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) معترضة في آخر الكلام ، أي وما أغني عنكم بوصيتي هذه شيئا. و (مِنَ اللهِ) متعلق ب (أُغْنِي) ، أي لا يكون ما أمرتكم به مغنيا غناء مبتدئا من عند الله بل هو الأدب والوقوف عند ما أمر الله ، فإن صادف ما قدره فقد حصل فائدتان ، وإن خالف ما قدّره حصلت فائدة امتثال أوامره واقتناع النفس بعدم التفريط.
وتقدم وجه تركيب (وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) عند قوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) في سورة العقود [٤١].
وأراد بهذا تعليمهم الاعتماد على توفيق الله ولطفه مع الأخذ بالأسباب المعتادة الظاهرة تأدبا مع واضع الأسباب ومقدّر الألطاف في رعاية الحالين ، لأنا لا نستطيع أن نطلع على مراد الله في الأعمال فعلينا أن نتعرفها بعلاماتها ولا يكون ذلك إلا بالسعي لها.
وهذا سرّ مسألة القدر كما أشار إليه قول النبي صلىاللهعليهوسلم «اعملوا فكل ميسّر لما خلق له» ، وفي الأثر «إذا أراد الله أمرا يسّر أسبابه» قال الله تعالى : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى