القرينة ظاهرة على أنّ قوله تعالى : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) ليست من مقول الذين أوتوا العلم يوم القيامة ، إذ لا مناسبة لأن يعرّف الكافرون يوم القيامة بأنهم الّذين تتوفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ؛ فإن صيغة المضارع في قوله تعالى : (تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) قريبة من الصريح في أن هذا التوفّي محكيّ في حال حصوله وهم يوم القيامة مضت وفاتهم ولا فائدة أخرى في ذكر ذلك يومئذ ، فالوجه أن يكون هذا كلاما مستأنفا.
وعن عكرمة : نزلت هذه الآية بالمدينة في قوم أسلموا بمكّة ولم يهاجروا فأخرجهم قريش إلى بدر كرها فقتلوا ببدر.
فالوجه أن (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) بدل من (الَّذِينَ) في قوله تعالى : (فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) [سورة النحل : ٢٢] أو صفة لهم ، كما يومئ إليه وصفهم في آخر الآية بالمتكبّرين في قوله تعالى : (فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) ، فهم الّذين وصفوا فيما قبل بقوله تعالى : (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) [سورة النحل : ٢٢] ، وما بينهما اعتراض. وإن أبيت ذلك لبعد ما بين المتبوع والتّابع فاجعل (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) خبرا لمبتدإ محذوف. والتقدير : هم الذين تتوفاهم الملائكة.
وحذف المسند إليه جار على الاستعمال في أمثاله من كلّ مسند إليه جرى فيما سلف من الكلام. أخبر عنه وحدث عن شأنه ، وهو ما يعرف عند السكاكي بالحذف المتّبع فيه الاستعمال. ويقابل هذا قوله تعالى فيما يأتي : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ) [سورة النحل : ٣٢] فإنه صفة (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) [سورة النحل : ٣٠] فهذا نظيره.
والمقصود من هذه الصلة وصف حالة الذين يموتون على الشّرك ؛ فبعد أن ذكر حال حلول العذاب بمن حلّ بهم الاستئصال وما يحلّ بهم يوم القيامة ذكرت حالة وفاتهم التي هي بين حالي الدّنيا والآخرة ، وهي حال تعرض لجميعهم سواء منهم من أدركه الاستئصال ومن هلك قبل ذلك.
وأطبق من تصدّى لربطه بما قبله من المفسّرين ، على جعل (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) الآية بدلا من (الْكافِرِينَ) في قوله تعالى : (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) [سورة النحل : ٢٧] ، أو صفة له. وسكت عنه صاحب «الكشاف» (وهو سكوت من ذهب). وقال الخفاجي : «وهو يصحّ فيه أن يكون مقولا للقول وغير مندرج تحته». وقال ابن عطيّة : «ويحتمل أن يكون (الَّذِينَ) مرتفعا بالابتداء منقطعا مما قبله وخبره في قوله : (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) [سورة النحل : ٢٨] اه.