قفّيت بما اختلقه المشركون من الطّعن فيه بعد تنقلات جاء فيها (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [سورة النحل : ٢٤] ، وأتبع ذلك بتنقلات بديعة فأعيد الكلام على القرآن وفضائله من قوله تعالى : (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) [سورة النحل : ٦٤] ثم قوله (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [سورة النحل : ٨٩]. وجاء في عقب ذلك بشاهد يجمع ما جاء به القرآن ، وذلك آية (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) [سورة النحل : ٩٠] ، فلما استقرّ ما يقتضي تقرّر فضل القرآن في النفوس نبّه على نفاسته ويمنه بقوله : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) [سورة النحل : ٩٨] ، لا جرم تهيأ المقام لإبطال اختلاق آخر من اختلاقهم على القرآن اختلاقا مموّها بالشبهات كاختلاقهم السابق الذي أشير إليه بقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [سورة النحل : ٢٤]. ذلك الاختلاق هو تعمّدهم التّمويه فيما يأتي من آيات القرآن مخالفا لآيات أخرى لاختلاف المقتضي والمقام. والمغايرة باللين والشدّة ، أو بالتعميم والتخصيص ، ونحو ذلك مما يتبع اختلافه اختلاف المقامات واختلاف الأغراض واختلاف الأحوال التي يتعلّق بها ، فيتّخذون من ظاهر ذلك دون وضعه مواضعه وحمله محامله مغامز يتشدّقون بها في نواديهم ، يجعلون ذلك اضطرابا من القول ويزعمونه شاهدا باقتداء قائله في إحدى المقالتين أو كلتيهما. وبعض ذلك ناشئ عن قصور مداركهم عن إدراك مرامي القرآن وسموّ معانيه ، وبعضه ناشئ عن تعمّد للتجاهل تعلّقا بظواهر الكلام يلبّسون بذلك على ضعفاء الإدراك من أتباعهم ، ولذلك قال تعالى : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ، أي ومنهم من يعلمون ولكنهم يكابرون.
روي عن ابن عباس أنه قال : «كان إذا نزلت آية فيها شدّة ثم نزلت آية ألين منها يقول كفار قريش : والله ما محمد إلا يسخر بأصحابه ، اليوم يأمر بأمر وغدا ينهى عنه ، وأنه لا يقول هذه الأشياء إلا من عند نفسه» اه.
وهذه الكلمة أحسن ما قاله المفسّرون في حاصل معنى هذه الآية. فالمراد من التبديل في قوله تعالى ؛ (بَدَّلْنا) مطلق التغاير بين الأغراض والمقامات ، أو التغاير في المعاني واختلافها باختلاف المقاصد والمقامات مع وضوح الجمع بين محاملها.
والمرد بالآية الكلام التام من القرآن ، وليس المراد علامة صدق الرسول صلىاللهعليهوسلم أعني المعجزة بقرينة قوله تعالى : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ).
فيشمل التبديل نسخ الأحكام مثل نسخ قوله تعالى : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ