هذا ردّ لقولهم : (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) [سورة النحل : ١٠١] بقلب ما زعموه عليهم ، كما كان قوله تعالى : (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌ) [سورة النحل : ١٠٣] جوابا عن قولهم : (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) [سورة النحل : ١٠٣]. فبعد أن نزّه القرآن عن أن يكون مفترى والمنزّل عليه عن أن يكون مفتريا ثني العنان لبيان من هو المفتري. وهذا من طريقة القلب في الحال.
ووجه مناسبة ذكره هنا أن قولهم : (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) يستلزم تكذيب النبيصلىاللهعليهوسلم في أن ما جاء به منزّل إليه من عند الله ، فصاروا بهذا الاعتبار يؤكّدون بمضمونه قولهم : (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) يؤكّد أحد القولين القول الآخر ، فلما ردّ قولهم : (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) بقوله : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ* قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) [سورة النحل : ١٠١ ـ ١٠٢]. وردّت مقالتهم الأخرى في صريحها بقوله (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌ) ، وردّ مضمونها هنا بقوله (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) الآية ، حاصلا به ردّ نظيرها أعني قولهم (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) بكلام أبلغ من كلامهم ، لأنهم أتوا في قولهم (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) بصيغة قصر هي أبلغ مما قالوه ، لأن قولهم : (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) قصر للمخاطب على صفة الافتراء الدائمة ، إذ الجملة الاسمية تقتضي الثبات والدّوام ، فردّ عليهم بصيغة تقصرهم على الافتراء المتكرّر المتجدّد ، إذ المضارع يدلّ على التجدّد.
وأكّد فعل الافتراء بمفعوله الذي هو بمعنى المفعول المطلق لكونه آئلا إليه المعنى.
وعرّف (الْكَذِبَ) بأداة تعريف الجنس الدّالة على تميّز ماهية الجنس واستحضارها ، فإن تعريف اسم الجنس أقوى من تنكيره ، كما تقدّم في قوله تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [سورة الفاتحة : ٢].
وعبّر عن المقصور عليهم باسم الموصول دون أن يذكر ضميرهم ، فيقال : إنما يفتري الكذب أنتم ، ليفيد اشتهارهم بمضمون الصّلة ، ولأن للصّلة أثرا في افترائهم ، لما تفيده الموصولية من الإيماء إلى وجه بناء الخبر.
وعليه فإن من لا يؤمن بالدلائل الواضحة التي هي آيات صدق لا يسعه إلا الافتراء لترويج تكذيبه بالدلائل الواضحة. وفي هذا كناية عن كون تكذيبهم بآيات الله عن مكابرة لا عن شبهة.
ثم أردفت جملة القصر بجملة قصر أخرى بطريق ضمير الفصل وطريق تعريف