قرأ نافع تبشرون ـ بكسر النون مخففة دون إشباع ـ على حذف نون الرفع وحذف ياء المتكلم وكل ذلك تخفيف فصيح. وقرأ ابن كثير ـ بكسر النون مشددة ـ على حذف ياء المتكلم خاصة. وقرأ الباقون ـ بفتح النون ـ على حذف المفعول لظهوره من المقام ، أي تبشرونني.
وجواب الملائكة إياه بأنهم بشّروه بالخبر الحق ، أي الثابت لا شك فيه إبطالا لما اقتضاه استفهامه بقوله : (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) من أن ما بشروه به أمر يكاد أن يكون منتفيا وباطلا. فكلامهم رد لكلامه وليس جوابا على استفهامه لأنه استفهام غير حقيقي.
ثم نهوه عن استبعاد ذلك بأنه استبعاد رحمة القدير بعد أن علم أن المبشّرين بها مرسلون إليه من الله فاستبعاد ذلك يفضي إلى القنوط من رحمة الله فقالوا : (فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ). ذلك أنه لما استبعد ذلك استبعاد المتعجب من حصوله كان ذلك أثرا من آثار رسوخ الأمور المعتادة في نفسه بحيث لم يقلعه منها الخبر الذي يعلم صدقه فبقي في نفسه بقية من التردّد في حصول ذلك فقاربت حاله تلك حال الذين ييأسون من أمر الله. ولما كان إبراهيم ـ عليهالسلام ـ منزّها عن القنوط من رحمة الله جاءوا في موعظته بطريقة الأدب المناسب فنهوه عن أن يكون من زمرة القانطين تحذيرا له مما يدخله في تلك الزمرة ، ولم يفرضوا أن يكون هو قانطا لرفعة مقام نبوءته عن ذلك. وهو في هذا المقام كحاله في مقام ما حكاه الله عنه من قوله : (أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [سورة البقرة : ٢٦٠].
وهذا النّهي كقول الله تعالى لنوح ـ عليهالسلام ـ (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) [سورة هود : ٤٦].
وقد ذكرته الموعظة مقاما نسيه فقال : (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ). وهو استفهام إنكار في معنى النفي ، ولذلك استثنى منه (إِلَّا الضَّالُّونَ). يعني أنه لم يذهب عنه اجتناب القنوط من رحمة الله ، ولكنه امتلكه المعتاد فتعجب فصار ذلك كالذهول عن المعلوم فلما نبّهه الملائكة أدنى تنبيه تذكّر.
القنوط : اليأس.
وقرأ الجمهور (وَمَنْ يَقْنَطُ) ـ بفتح النون ـ. وقرأه أبو عمرو والكسائي ويعقوب وخلف ـ بكسر النون ـ وهما لغتان في فعل قنط.