فبلفظ «أكرم» جعل الوجوب ، وبلفظ «إن جاءك» جعل السببية.
وتارة يجعل الوجوب مستقلا بجعلين ، فيقول : أكرم زيدا بعد مجيئه ، فيجعل الحكم التكليفي ويقول بعد ذلك بأنّه جعل مجيء زيد سببا لإكرامه.
وتارة يجعله لا مستقلا ، بل بتبع جعل شيء آخر ، ففي هذا القسم أيضا يكون مجعولا ، غاية الأمر لا بجعل مستقلّ بل تبعا ، فكلّ مورد كان فيه الجعل بهذه الأنحاء يكون مجعولا ، فالمنكر لجعل الأحكام الوضعية يقول بعدم الجعل بأحد هذه الانحاء ، فيكون النزاع في أنّ الأحكام الوضعية هل هي مجعولة بأحد هذه الأنحاء المتقدمة ، أم لا؟ فهذا محلّ النزاع في أنّ الأحكام الوضعية مجعولات شرعية أو غير مجعولة بل هي امور انتزاعية انتزعها العقل من منشأ انتزاعها؟
المقدمة الثانية : اعلم أنّ الكلام والنزاع يكون في الأحكام الوضعية فقط ، بمعنى النزاع في أنّها هل هي مجعولة أو منجعلة ، أي منتزعة؟ وأمّا الأحكام التكليفية فلا ترديد في كونها مجعولات شرعية ، سواء كان الحكم عبارة عن نفس الإرادة ، وحيث إنّه على مذهب الحكماء تكون الإرادة من صفات الذات ، فلو كان الحكم عبارة عن إرادته تعالى يلزم المحذور ، فلذا قال بعض بأنّ بالإلهام تنبعث الإرادة في النبي ، كما قال بذلك المحقّق الخراساني رحمهالله ، وأمّا على مذهب المتكلّمين القائلين بكون الإرادة هي العلم بالأصلح فلا مانع من كون إرادة الله تعالى هي الحكم ، وعلى كل تقدير يكون الحكم هو الإرادة ، أو يكون الحكم هو مقام إظهار الارادة.
أو يكون الحكم عبارة عن أمر اعتباريّ فيكون هو من الامور الاعتبارية التي اعتبرها الشارع ، وعلى كلّ تقدير يكون الحكم على كلّ هذه المباني من المجعولات الشرعية بلا ريب ولا نزاع ، وخلاف فيه.
ومنشأ توهّم كون هذا النزاع ـ أعني نزاع كون الأحكام الوضعية مجعولات أو منتزعات ـ جار في الأحكام التكليفية أيضا ليس إلّا ما رأوا من انتزاع الإرادة