ثمّ إنّه لا يخفى عليك بأنّ هذا الكلام ـ أعني كون الحكم الوضعي مجعولا أو منتزعا ـ ليس له اختصاص بشرعنا ، بل يجري في غير شرعنا أيضا ، وحتى عند العرف مع قطع النظر عن الشرع ، ولو رأينا كونه متداولا عند العرف أيضا فإمّا أن يكون مجعولا أو منتزعا ، فلو كان مجعولا وتكون انتزاعيته محالا فلا يمكن أن ينتزعه العرف من أمر مجعول ، لأنّه كيف يمكن للعرف الإقدام على أمر محال؟ أو لو فرض كونه منتزعا ومجعوليته كانت محالا فليس للعرف أيضا الذهاب الى مجعوليته بعد استحالته.
فظهر لك من هذا البيان فساد كلام النائيني رحمهالله ، حيث قال بأنّ في الامور التي أمضاها الشرع وليس من مجعولاته لا معنى لكونها منتزعة كالزوجيّة والملكية والرقّية والحرية ؛ لأنّها من اعتبارات العرف ، فتكون من الامور الاعتبارية ، لا من الامور الانتزاعية ؛ لأنّه لو فرض كون مجعوليتها محالا فكيف يعتبرها العرف؟ فافهم.
المقدمة الخامسة : لا يخفى عليك أنّه كما قلنا سابقا في مطاوي كلماتنا : يكون الجعل على أنحاء :
الأول : الجعل بالأصالة أعني الجعل الأصلي ، وهو : أن يجعل شيئا بالأصالة والاستقلال ، مثل أن يقول : جعلت الشيء الفلانيّ طريقا.
الثاني : الجعل بالتبع ، أعني الجعل التبعي ، وهو عبارة عن جعل شيء بتبع شيء آخر ، بأن يجعل شيئا بالأصالة وبتبعه يجعل شيئا آخر ، وهذا أيضا جعل ، ويكون الشيء الآخر مجعولا ، غاية الأمر بالتبع ، مثل جعل وجوب المقدمة فهو مجعول لكن بتبع جعل ذي المقدمة.
الثالث : الجعل بالعرض ، وهو أن يجعل شيئا فمن جعله بالعرض يستند الى شيء آخر أنّه مجعول ، وفي هذا القسم ليس الشيء الآخر حقيقة ولا تبعا مجعولا ، بل لا يتعلق به جعل أصلا ، غاية الأمر بلحاظ الشيء المجعول حيث ينتزع منه هذا