ـ (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) [يوسف : ٨٤].
فإن قيل : فلم أسرف يعقوب عليهالسلام في الحزن والتهالك وترك التماسك حتّى ابيضّت عيناه من البكاء والحزن ، ومن شأن الأنبياء عليهمالسلام التجلّد والتصبّر وتحمّل الأثقال ، ولو لا هذه الحال ما عظمت منازلهم وارتفعت درجاتهم؟
الجواب : قيل له : إنّ يعقوب عليهالسلام بلي وامتحن في ابنه بما لم يمتحن به أحد قبله ؛ لأنّ الله تعالى رزقه مثل يوسف عليهالسلام أحسن الناس وأجملهم وأكملهم عقلا وفضلا وأدبا وعفافا ثمّ أصيب به أعجب مصيبة وأطرفها ؛ لأنّه لم يمرض بين يديه مرضا يؤول إلى الموت فيسلّيه عنه تمريضه له ثمّ يأسه منه بالموت ، بل فقده فقدا لا يقطع معه على الهلاك فييأس منه ، ولا يجد أمارة على حياته وسلامته ، فيرجو ويطمع. وكان متردّد الفكر بين يأس وطمع ، وهذا أغلظ ما يكون على الانسان وأنكأ لقلبه ، وقد يرد على الانسان من الحزن ما لا يملك ردّه ولا يقوى على دفعه. ولهذا لا يكون أحدنا منهيا عن مجرّد الحزن والبكاء ، وإنّما نهي عن اللطم والنوح ، وأن يطلق لسانه فيما يسخط ربّه وقد بكى نبينا صلىاللهعليهوآلهوسلم على ابنه إبراهيم عند وفاته. وقال : «العين تدمع والقلب يخشع ولا نقول ما يسخط الرب» ، وهو القدوة في جميع الآداب والفضائل ، على أنّ يعقوب عليهالسلام إنّما أبدى من حزنه يسيرا من كثير ، وكان ما يخفيه ويتصبّر عليه ويغالبه أكثر وأوسع ممّا أظهره.
وبعد ، فإنّ التجلّد على المصائب وكظم الغيظ والحزن من المندوب إليه ، وليس بواجب ولا لازم ، وقد يعدل الأنبياء عن كثير من المندوبات الشاقّة ، وإن كانوا يفعلون من ذلك الكثير.
فإن قيل : كيف لم يتسلّ يعقوب عليهالسلام ويخفّف عنه الحزن ما يحقّقه من رؤيا ابنه يوسف عليهالسلام ، ورؤيا الأنبياء عليهالسلام لا تكون إلّا صادقة؟.
الجواب : قيل له في ذلك جوابان : أحدهما : انّ يوسف عليهالسلام رأى تلك