فإن قيل : فما البرهان الّذي رآه يوسف عليهالسلام حتّى انصرف لأجله عن المعصية؟ وهل يصحّ أن يكون البرهان ما روي من أنّ الله تعالى أراه صورة ابيه يعقوب عليهالسلام عاضّا على إصبعه متوعدا له على مقاربة المعصية (١) ، أو يكون ما روي من أنّ الملائكة نادته بالنهي والزجر في الحال فانزجر؟
قلنا : ليس يجوز أن يكون البرهان الّذي رآه فانزجر به عن المعصية ما ظنّه العامة من الأمرين اللذين ذكرناهما ؛ لأنّ ذلك يفضي إلى الالجاء وينافي التكليف ويضادّ المحنة ، ولو كان الأمر على ما ظنّوه لما كان يوسف عليهالسلام يستحق بتنزيهه عمّا دعته إليه المرأة من المعصية مدحا ولا ثوابا ، وهذا من أقبح القول فيه عليهالسلام ؛ لأنّ الله تعالى قد مدحه بالامتناع عن المعصية وأثنى عليه بذلك فقال تعالى : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) ، فأمّا البرهان ، فيحتمل أن يكون لطفا لطف الله تعالى به في تلك الحال أو قبلها ، فاختار عنده الامتناع من المعاصي والتنزّه عنها ، وهو الذي يقتضي كونه معصوما : لأن العصمة هي ما اختير عنده من الألطاف ، التنزّه عن القبيح والامتناع من فعله. ويجوز أن يكون معنى الرؤية ههنا بمعنى العلم ، كما يجوز أن يكون بمعنى الإدراك ؛ لأنّ كلا الوجهين يحتمله القول.
وذكر آخرون : أنّ البرهان ههنا إنّما هو دلالة الله تعالى ليوسف عليهالسلام على تحريم ذلك الفعل ، وعلى أنّ من فعله استحق العقاب ؛ لأنّ ذلك أيضا صارف عن الفعل ومقوّ لدواعي الامتناع منه وهذا أيضا جائز (٢).
ـ (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧)) [يوسف : ٢٦ ـ ٢٧].
انظر المائدة : ٦٤ الأمر الأوّل من الأمالي ، ٢ : ٥.
__________________
(١) الدرّ المنثور : ٥ : ٣٩٣.
(٢) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ٧٣ وراجع أيضا الأمالي ، ١ : ٤٥٢.