على مذاهبكم من فعله ، لأنّها السهو وما جرى مجراه ممّا ينافي العلوم الضروريّة ، ولا تكليف على الساهي فكيف يذمّ بذلك؟
قلنا : المراد هاهنا بالغفلة التشبيه لا الحقيقة ، ووجه التشبيه أنّهم لمّا أعرضوا عن تأمّل آيات الله تعالى ، والانتفاع بها أشبهت حالهم حال من كان ساهيا غافلا عنها ، فأطلق عليهم هذا القول كما قال تعالى : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) (١) ، على هذا المعنى ، وكما يقول أحدنا لمن يستبطئه ويصفه بالإعراض عن التأمل والتبيّن : أنت ميّت وراقد ، ولا تسمع ، ولا تبصر ، وما أشبه ذلك ، وكل هذا واضح بحمد الله (٢).
ـ (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [الأعراف : ١٥٠].
[فان قيل] أو ليس ظاهر هذه الآية يدلّ على أن هارون عليهالسلام أحدث ما أوجب إيقاع ذلك الفعل منه؟ وبعد فما الاعتذار لموسى عليهالسلام من ذلك وهو فعل السخفاء والمتسرّعين وليس من عادة الحكماء المتماسكين؟
الجواب : قلنا : ليس فيما حكاه الله تعالى من فعل موسى وأخيه عليهماالسلام ما يقتضي وقوع معصية ولا قبيح من واحد منهما ، وذلك أنّ موسى عليهالسلام أقبل وهو غضبان على قومه لما أحدثوا بعده مستعظما لفعلهم مفكّرا منكرا ما كان منهم ، فأخذ برأس أخيه وجرّه إليه كما يفعل الانسان بنفسه مثل ذلك عند الغضب وشدّة الفكر. ألا ترى أنّ المفكّر الغضبان قد يعضّ على شفتيه ويفتل أصابعه ويقبض على لحيته؟ فأجرى موسى عليهالسلام أخاه هارون مجرى نفسه ؛ لأنّه كان أخاه وشريكه وحريمه ، ومن يمسّه من الخير والشر ما يمسّه ، فصنع به ما يصنعه الرجل بنفسه في أحوال الفكر والغضب ، وهذه الأمور تختل أحكامها بالعادات ، فيكون ما هو إكرام في بعضها استخفافا في غيرها ، ويكون ما هو استخفاف في موضع إكراما في آخر.
__________________
(١) سورة البقرة ، الآية : ١٨.
(٢) الأمالي ، ١ : ٣٠٤.