وأما قوله : (لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) (١) ، فليس يدلّ على أنّه وقع على سبيل الاستخفاف ، بل لا يمتنع أن يكون هارون عليهالسلام خاف من أن يتوهّم بنو إسرائيل لسوء ظنّهم انّه منكر عليه معاتب له ، ثمّ ابتدأ بشرح قصّته فقال في موضع آخر : (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) (٢) وفي موضع آخر : (ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي) إلى آخر الآية ، ويمكن أن يكون قوله : (لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) ليس على سبيل الامتعاظ والأنفة أي الغيرة ، لكن معنى كلامه : «لا تغضب ولا يشتدّ جزعك وأسفك» ؛ لأنّا إذا كنّا قد جعلنا فعله ذلك دلالة الغضب والجزع فالنهي عنه في المعنى نهي عنهما.
وقال قوم : إنّ موسى عليهالسلام لمّا جرى من قومه من بعده ما جرى اشتدّ حزنه وجزعه ، ورأى من أخيه هارون عليهالسلام مثل ما كان عليه من الجزع والقلق ، أخذ برأسه إليه متوجّعا له مسكّنا له ، كما يفعل أحدنا بمن تناله المصيبة العظيمة فيجزع لها ويقلق منها.
وعلى هذا الجواب يكون قوله : (فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ) لا يتعلّق بهذا الفعل ، بل يكون كلاما مستأنفا.
وأمّا قوله على هذا الجواب : (لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) ، فيحتمل أن يريد أن لا تفعل ذلك وغرضك التسكين منّي فيظنّ القوم أنّك منكر عليّ.
وقال قوم في هذه الآية : إنّ بني إسرائيل كانوا على نهاية سوء الظن بموسى عليهالسلام ، حتّى أنّ هارون عليهالسلام كان غاب عنهم غيبة فقالوا لموسى عليهالسلام : أنت قتلته ، فلمّا وعد الله تعالى موسى ثلاثين ليلة وأتمّها له بعشر وكتب له في الألواح كلّ شيء وخصّه بأمور شريفة جليلة الخطر ، بما أراه من الآية في الجبل ومن كلام الله تعالى له وغير ذلك من شريف الأمور ، ثمّ رجع إلى أخيه ، أخذ برأسه ليدنيه إليه ويعلمه ما جدّده الله تعالى له من ذلك ويبشّره به ، فخاف هارون عليهالسلام أن يسبق إلى قلوبهم ما لا أصل له ، فقال إشفاقا على
__________________
(١) سورة طه ، الآية : ٩٤.
(٢) سورة طه ، الآية : ٩٤.