والآيتان معترضتان في تضاعيف وصيّة لقمن تأكيدا لما فيها من النهي عن الشرك كأنّه قال : وقد وصّينا بمثل ما وصّى به ، وذكر الوالدين للمبالغة في ذلك ، فإنّهما مع كونهما تلو الباري في استحقاق التعظيم والطّاعة ، لا يجوز أن يطاعا في الإشراك فما ظنّك بغيرهما.
(يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) أي إنّ الخصلة من الإساءة أو الإحسان إن تك في الصغر والقماءة كحبّة الخردل ، وقرأ نافع برفع المثقال على أنّ الهاء ضمير القصّة وكان تامّة وتأنيثها لإضافة المثقال إلى الحبّة ، فإنّ المضاف قد يكتسب من المضاف إليه التّأنيث ، وقد ورد في الأشعار العربيّة (١) كثيرا أو أنّ التأنيث على المعنى نظرا إلى أنّ المراد به الحسنة أو السيّئة.
(فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ) عطف على سابقه ، والمراد أنّها لو كانت في الصّغر كحبّة الخردل ، وكانت في أخفى موضع وأحرزه كجوف الصّخرة العظيمة فانّ الحبّة فيها أخفى وأبعد من الاستخراج ، أو حيث كانت في العالم العلوي أو السفلىّ فلا يرد أنّ الصخرة لا بدّ أن تكون في السّموات أو في الأرض فما الفائدة في ذكرهما؟ لأنّ في الكلام إضمارا ، والمراد في صخرة أو في موضع آخر من السموات والأرض ، ويمكن توجيهه أيضا بأنّ خفاء الشيء إمّا أن يكون لغاية صغره أو لاحتجابه أو لكونه بعيدا ، أو لكونه في ظلمة ، فأشار إلى الأوّل بقوله (مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) وإلى الثاني بقوله (فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ) وإلى الثالث بقوله (فِي السَّماواتِ) وإلى الرابع بقوله (أَوْ فِي الْأَرْضِ).
(يَأْتِ بِهَا اللهُ) يحضرها فيحاسب بها عاملها يوم القيمة ، وفيه مبالغة ليست في
__________________
(١) قال ابن مالك في ألفيته :
وربما أكسب ثان أولا |
|
تأنيثا ان كان لحذف موهلا |
وانشدوا في ذلك :
تجنب صديقا مثل ما ، واحذر الذي |
|
يكون كعمرو بين عرب وأعجم |
فان صديق السوء يزري وشاهدي |
|
كما شرقت صدر القناة من الدم |