المشرق تختص به هذه السبعة دون غيرها. فأقسم الله بها في حال خنوسها ، أي : تأخرها ، وفي حال جريانها ، وفي حال كنوسها ، أي : استتارها بالنهار. ويحتمل أن المراد بها جميع الكواكب السيارة وغيرها.
[١٧] (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) (١٧) ، أي : أقبل ، وقيل : أدبر.
[١٨] (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) (١٨) ، أي : بدت علائم الصبح ، وانشق النور شيئا فشيئا ، حتى يستكمل وتطلع الشمس. وهذه آيات عظام ، أقسم الله عليها ، لقوة سند القرآن وجلالته ، وحفظه من كلّ شيطان رجيم ، فقال :
[١٩] (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) (١٩) وهو أي : جبريل عليهالسلام ، نزل به من الله تعالى ، كما قال تعالى : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (١٩٤). ووصفه الله بالكريم لكرم أخلاقه ، وخصاله الحميدة ، فإنه أفضل الملائكة ، وأعظمهم رتبة عند ربه.
[٢٠] (ذِي قُوَّةٍ) على ما أمره الله به. ومن قوته أنه قلب ديار قوم لوط بهم ، فأهلكهم. (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ) ، أي : جبريل مقرب عند الله ، له منزلة رفيعة وخصيصة من الله ، اختصه بها. (مَكِينٍ) ، أي : له مكانة ومنزلة ، فوق منازل الملائكة كلهم.
[٢١] (مُطاعٍ ثَمَ) ، أي : جبريل مطاع في الملأ الأعلى ، لأنه من الملائكة المقربين ، نافذ فيهم أمره ، مطاع رأيه. (أَمِينٍ) ، أي : ذو أمانة ، وقيام بما أمر به ، لا يزيد ولا ينقص ولا يتعدى ما حدّ له ، وهذا كله يدل على شرف القرآن عند الله تعالى ، فإنه بعث به هذا الملك الكريم ، الموصوف بتلك الصفات الكاملة. والعادة أن الملوك لا ترسل الكريم عليها ، إلا في أهم المهمات ، وأشرف الرسائل.
[٢٢] ولما ذكر فضل الرسول الملكي الذي جاء بالقرآن ، ذكر فضل الرسول البشري الذي نزل عليه القرآن ، ودعا إليه الناس ، فقال : (وَما صاحِبُكُمْ) وهو محمد صلىاللهعليهوسلم (بِمَجْنُونٍ) كما يقوله أعداؤه المكذبون برسالته ، المتقولون عليه الأقوال ، الّتي يريدون أن يطفئوا بها ما جاء به. بل هو أكمل الناس عقلا ، وأجزلهم رأيا ، وأصدقهم لهجة.
[٢٣] (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) (٢٣) ، أي : رأى محمد صلىاللهعليهوسلم جبريل عليهالسلام بالأفق البيّن ، الذي هو أعلى ما يلوح للبصر.
[٢٤] (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) (٢٤) ، أي : وما هو على ما أوحاه الله إليه ، بشحيح يكتم بعضه ، بل هو صلىاللهعليهوسلم أمين أهل السماء ، وأهل الأرض ، الذي بلغ رسالات ربه ، البلاغ المبين ، فلم يشح بشيء منه ، عن غنيّ ولا فقير ، ولا رئيس ولا مرؤوس ، ولا ذكر ولا أنثى ، ولا حضريّ ولا بدويّ ، ولذلك بعثه الله في أمة أمية ، جاهلة جهلاء. فلم يمت صلىاللهعليهوسلم ، حتى كانوا علماء ربانيين ، وأحبارا متفرسين ، إليهم الغاية في العلوم ، وإليهم المنتهى في استخراج الدقائق والمفهوم ، وهم الأساتذة وغيرهم قصاراه أن يكون من تلاميذهم.
[٢٥] (وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) (٢٥) لما ذكر جلالة كتابه وفضله ، بذكر الرسولين الكريمين ، اللذين وصل إلى الناس على أيديهما ، وأثنى الله عليهما بما أثنى ، دفع عنه كلّ آفة ونقص ، مما يقدح في صدقه ، فقال : (وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) (٢٥) ، أي : في غاية البعد عن الله وعن قربه.
[٢٦] (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) (٢٦) ، أي : كيف يخطر هذا ببالكم ، وأين عزبت عنكم أذهانكم؟ حتى جعلتم الحقّ الذي هو في أعلى درجات الصدق ، بمنزلة الكذب ، الذي هو أنزل ما يكون ، وأرذل وأسفل الباطل؟ هل هذا إلا من انقلاب الحقائق.
[٢٧] (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) (٢٧) يتذكرون به ربهم ، وما له من صفات الكمال ، وما ينزه عنه من النقائص ، والرذائل والأمثال ، ويتذكرون به الأوامر والنواهي وحكمها ، ويتذكرون به الأحكام القدرية والشرعية والجزائية. وبالجملة ، يتذكرون به مصالح الدارين ، وينالون بالعمل به السعادتين.
[٢٨] (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) (٢٨) بعد ما تبين الرشد من الغي ، والهدى من الضلال.
[٢٩] (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٢٩) ، أي : فمشيئته نافذة ، لا يمكن أن تعارض أو تمانع. وفي هذه الآية وأمثالها ، ردّ على فرقتي القدرية النفاة ، والجبرية المجبرة كما تقدم من أمثالها ، والله أعلم ، والحمد لله. تم تفسير سورة التكوير.