هذا المقصود الأعظم ، وهو أن يتميز الصادقون ، الّذين لا يتحيزون إلا لدين الله ، من الكاذبين الّذين يزعمون الإيمان وهم يتخذون الولائج والأولياء من دون الله ورسوله والمؤمنين. (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي : ما يصير منكم ويصدر ، فيبتليكم بما تظهر به حقيقة ما أنتم عليه ، ويجازيكم على أعمالكم ، خيرها وشرها.
[١٧ ـ ١٨] يقول تعالى : (ما كانَ) أي ما ينبغي ولا يليق (لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) بالعبادة ، والصلاة ، وغيرها من أنواع الطاعات ، والحال أنهم شاهدون ومقرون على أنفسهم بالكفر ، بشهادة حالهم وفطرهم وعلم كثير منهم أنهم على الكفر والباطل. فإذا كانوا (شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) وعدم الإيمان الذي هو شرط لقبول الأعمال ، فكيف يزعمون أنهم عمّار مساجد الله ، والأصل منهم مفقود ، والأعمال منهم باطلة؟ ولهذا قال : (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أي : بطلت وضلت (وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ). ثمّ ذكر من هم عمّار مساجد الله فقال : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ) الواجبة والمستحبة ، بالقيام بالظاهر منها والباطن. (وَآتَى الزَّكاةَ) لأهلها (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ) أي قصر خشيته على ربه ، فكف عن ما حرم الله ، ولم يقصر بحقوق الله الواجبة. فوصفهم بالإيمان النافع ، وبالقيام بالأعمال الصالحة ، التي أمّها ، الصلاة ، والزكاة ، وبخشية الله التي هي أصل كل خير. فهؤلاء عمار المساجد على الحقيقة وأهلها الّذين هم أهلها. (فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) و «عسى» من الله واجبة. وأما من لم يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ، ولا عنده خشية لله ، فهذا ليس من عمار مساجد الله ، ولا من أهلها ، الّذين هم أهلها ، وإن زعم ذلك وادعاه.
[١٩ ـ ٢٢] لما اختلف بعض المسلمين ، أو بعض المسلمين وبعض المشركين ، في تفضيل عمارة المسجد الحرام ، بالبناء ، والصلاة والعبادة فيه ، وسقاية الحاج ، على الإيمان بالله ، والجهاد في سبيله ، أخبر الله تعالى بالتفاوت بينهما ، فقال : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ) أي : سقيهم الماء من زمزم ، كما هو المعروف ، إذا أطلق هذا الاسم ، أنه هو المراد (وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ). فالجهاد والإيمان بالله ، أفضل من سقاية الحاج ، وعمارة المسجد الحرام ، بدرجات كثيرة ، لأن الإيمان أصل الدين ، وبه تقبل الأعمال ، وتزكو الخصال. وأما الجهاد في سبيل الله فهو ذروة سنام الدين ، به يحفظ الدين الإسلامي ، ويتسع ، وينصر الحقّ ، ويخذل الباطل. وأما عمارة المسجد الحرام ، وسقاية الحاج ، فهي ، وإن كانت أعمالا صالحة ، فهي متوقفة على الإيمان ، وليس فيها من المصالح ، ما في الإيمان والجهاد ، فلذلك قال : (لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي : الّذين وصفهم الظلم ، الّذين لا يصلحون لقبول شيء من الخير ، بل لا يليق بهم إلا الشر. ثمّ صرح بالفضل فقال : (الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ) بالنفقة في الجهاد ، وتجهيز الغزاة (وَأَنْفُسِهِمْ) بالخروج بالنفس (أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) أي : لا يفوز بالمطلوب ، ولا ينجو من المرهوب ، إلا من اتصف بصفاتهم ، وتخلق بأخلاقهم. (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ) رحمة منه ، وكرما ، وبرا بهم ، واعتناء ومحبة لهم ، (بِرَحْمَةٍ مِنْهُ) أزال بها