وأدلة متنوعة ، لتستقر في القلوب فتثمر من الخير والبر ، بحسب ثبوتها في القلب. وحتى إنه تعالى يجمع في اللفظ القليل الواضح ، معاني كثيرة ، يكون اللفظ لها ، كالقاعدة والأساس. واعتبر هذا ، بالآية التي بعد هذه الآية ، وما فيها من أنواع الأوامر والنواهي ، التي لا تحصى. فلما كان هذا القرآن تبيانا لكل شيء ، صار حجة الله على العباد كلهم. فانقطعت به حجة الظالمين ، وانتفع به المسلمون ، فصار هدى لهم ، يهتدون به إلى أمر دينهم ودنياهم ، ورحمة ينالون به كل خير في الدنيا والآخرة. فالهدى ، ما نالوا به ، من علم نافع ، وعمل صالح. والرحمة ، ما ترتب على ذلك من ثواب الدنيا والآخرة ، كصلاح القلب وبره ، وطمأنينته. وتمام العقل ، الذي لا يتم إلا بتربيته على معانيه ، التي هي أجل المعاني وأعلاها ، والأعمال الكريمة والأخلاق الفاضلة ، والرزق الواسع ، والنصر على الأعداء بالقول والفعل ، ونيل رضا الله تعالى ، وكرامته العظيمة ، التي لا يعلم ما فيها من النعيم المقيم ، إلا الرب الرحيم.
[٩٠] فالعدل الذي أمر الله به ، يشمل العدل في حقه ، وفي حق عباده. فالعدل في ذلك ، أداء الحقوق كاملة موفورة ، بأن يؤدي العبد ما أوجب الله عليه من الحقوق المالية والبدنية ، والمركبة منهما ، في حقه ، وحق عباده. ويعامل الخلق بالعدل التام ، فيؤدي كل وال ما عليه تحت ولايته ، سواء في ذلك ولاية الإمامة الكبرى ، وولاية القضاء ، ونواب الخليفة ، ونواب القاضي. والعدل هو : ما فرضه الله عليهم في كتابه ، وعلى لسان رسوله ، وأمرهم بسلوكه ، ومن العدل في المعاملات ، أن تعاملهم في عقود البيع والشراء وسائر المعاوضات ، بإيفاء جميع ما عليك ، فلا تبخس لهم حقا ، ولا تغشهم ، ولا تخدعهم وتظلمهم. فالعدل واجب ، والإحسان فضيلة مستحبة ، وذلك كنفع الناس ، بالمال والبدن ، والعلم ، وغير ذلك من أنواع النفع ، حتى يدخل فيه الإحسان إلى الحيوان البهيم المأكول ، وغيره. وخص الله إيتاء ذوي القربى ـ إن كان داخلا في العموم ـ لتأكد حقهم ، وتعين صلتهم وبرهم ، والحرص على ذلك. ويدخل في ذلك ، جميع الأقارب ، قريبهم ، وبعيدهم ، لكن كل من كان أقرب ، كان أحق بالبر. وقوله : (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ) وهو : كل ذنب عظيم ، استفحشته الشرائع والفطر ، كالشرك بالله ، والقتل بغير حق ، والزنا ، والسرقة ، والعجب ، والكبر ، واحتقار الخلق ، وغير ذلك من الفواحش. ويدخل في المنكر ، كل ذنب ومعصية تتعلق بحق الله تعالى. وبالبغي ، كل عدوان على الخلق ، في الدماء ، والأموال ، والأعراض. فصارت هذه الآية ، جامعة لجميع المأمورات والمنهيات ، لم يبق شيء ، إلا دخل فيها ، فهذه قاعدة ترجع إليها سائر الجزئيات. فكل مسألة مشتملة على عدل ، أو إحسان ، أو إيتاء ذي القربى ، فهي مما أمر الله به. وكل مسألة مشتملة على فحشاء أو منكر ، أو بغي ، فهي مما نهى الله عنه. وبها يعلم حسن ما أمر الله به ، وقبح ما نهى عنه. وبها يعتبر ما عند الناس من الأقوال ، وترد إليها سائر الأحوال ، فتبارك من جعل من كلامه ، الهدى ، والشفاء ، والنور ، والفرقان بين جميع الأشياء. ولهذا قال : (يَعِظُكُمْ) أي : بما بينه لكم في كتابه ، بأمركم بما فيه غاية صلاحكم ونهيكم عما فيه مضرتكم. (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ما يعظكم به ، فتفهمونه وتعقلونه. فإنكم إذا تذكرتموه وعقلتموه ، عملتم بمقتضاه ، فسعدتم سعادة لا شقاوة معها.
[٩١] فلما أمر بما هو واجب في أصل الشرع ، أمر بوفاء ما أوجبه العبد على نفسه فقال : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ) إلى قوله : (فِيهِ تَخْتَلِفُونَ). هذا يشمل جميع ما عاهد العبد عليه ربه ، من العبادات والنذور ، والأيمان التي عقدها ، إذا كان بها برا. ويشتمل أيضا ، ما تعاقد عليه هو وغيره ، كالعهود بين المتعاقدين ، وكالوعد الذي يعده العبد لغيره ، ويؤكده على نفسه ، فعليه في جميع ذلك الوفاء وتتميمها مع القدرة ، ولهذا نهى الله عن نقضها فقال : (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) بعقدها على اسم الله تعالى : (وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ) أيها المتعاقدون (كَفِيلاً). فلا يحل لكم أن لا تحكموا ما جعلتم الله عليكم كفيلا ، فيكون في ذلك ترك تعظيم الله ، واستهانة به ، وقد رضي الآخر منك باليمين ، والتوكيد الذي جعلت الله فيه كفيلا. فكما ائتمنك وأحسن ظنه فيك ، فلتف له بما قلته وأكدته. (إِنَّ اللهَ