كنت صادقا ، فأخبرنا بأية ساعة يصل إلينا ، وأين مكانه الآن؟ فهل يعد هذا القائل عاقلا ، أم يحكم بسفهه وجنونه؟ هذا ، والمخبر يمكن صدقه وكذبه ، والعدو قد يبدو له غيرهم ، وقد تنحل عزيمته. وهم قد يكون بهم منعة ، يدافعون بها عن أنفسهم. فكيف بمن كذّب أصدق الخلق ، المعصوم في خبره ، الذي لا ينطق عن الهوى ، بالعذاب اليقين ، الذي لا مدفع له ، ولا ناصر منه؟ أليس رد خبره ، بحجة عدم بيان وقت وقوعه ، من أسفه السفه؟
[٣٠] (قُلْ) لهم ـ مخبرا بوقت وقوعه ، الذي لا شك فيه ـ : (لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) فاحذروا ذلك اليوم ، وأعدوا له عدته.
[٣١] لما ذكر تعالى ، أن ميعاد المستعجلين بالعذاب ، لا بد من وقوعه عند حلول أجله ؛ ذكر هنا ، حالهم في ذلك اليوم ، وأنك لو رأيت حالهم ، إذ وقفوا عند ربهم ، واجتمع الرؤساء والأتباع في الكفر والضلال ، لرأيت أمرا عظيما وهولا جسيما. ورأيت كيف يتراجعون ، ويرجع بعضهم إلى بعض القول. (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) وهم الأتباع (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) وهم القادة. (لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) ولكنكم حلتم بيننا وبين الإيمان ، وزينتم لنا الكفران ، فتبعناكم على ذلك. ومقصودهم بذلك ، أن يكون العذاب على الرؤساء ، دونهم.
[٣٢] (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) مستفهمين لهم ومخبرين أن الجميع مشتركون في الجرم : (أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ) أي : بقوتنا وقهرنا إياكم. (بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) أي : مختارين للإجرام ، لستم مقهورين عليه ، وإن كنا قد زينا لكم ، فما كان لنا عليكم من سلطان.
[٣٣] (وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) أي : بل الذي دهانا منكم ، ووصل إلينا من إضلالكم ، ما دبرتموه من المكر ، في الليل والنهار ، إذ تحسّنون لنا الكفر ، وتدعوننا إليه ، وتقولون : إنه الحق ، وتقدحون في الحق ، وتهجنونه ، وتزعمون أنه الباطل. فما زال مكركم بنا ، وكيدكم إيانا ، حتى أغويتمونا وفتنتمونا. فلم تفد تلك المراجعة بينهم شيئا إلا براءة بعضهم من بعض ، والندامة العظيمة ، ولهذا قال : (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) أي : زال عنهم ذلك الاحتجاج الذي احتج به بعضهم ، لينجو من العذاب ، وعلم أنه ظالم مستحق له. فندم كلّ منهم غاية الندم ، وتمنى أن لو كان على الحق ، وأنه ترك الباطل الذي أوصله إلى هذا العذاب ، سرا في أنفسهم ، لخوفهم من الفضيحة في إقرارهم على أنفسهم. وفي بعض مواقف القيامة ، وعند دخولهم النار يظهرون ذلك الندم جهرا. (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) (٢٨) الآيات. (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (١٠) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) (١١).
(وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا) يغلون كما يغل المسجون ، الذي سيهان في سجنه كما قال تعالى : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) (٧٢) الآيات. (هَلْ يُجْزَوْنَ) في هذا