صاحبها عليها ، أو الّتي يلم العبد بها ، المرة بعد المرة ، على وجه الندرة والقلة ، فهذه ، ليس مجرد الإقدام عليها مخرجا للعبد من أن يكون من المحسنين ، فإن هذه ، مع الإتيان بالواجبات ، وترك المحرمات ، تدخل تحت مغفرة الله ، الّتي وسعت كلّ شيء ، ولهذا قال : (إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) ، فلو لا مغفرته لهلكت البلاد والعباد ، ولو لا عفوه وحلمه ، لسقطت السماء على الأرض ، ولما ترك على ظهرها من دابة. ولهذا قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان ، مكفرات لما بينهن ، ما اجتنبت الكبائر». وقوله : (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) ، أي : هو تعالى أعلم بأحوالكم كلها ، وما جبلكم عليه ، من الضعف والخور ، عن كثير مما أمركم الله به ، ومن كثرة الدواعي إلى فعل المحرمات ، وكثرة الجواذب إليها ، وعدم الموانع القوية. والضعف موجود مشاهد منكم ، حين أخرجكم الله من الأرض ، وإذ كنتم في بطون أمهاتكم ، ولم يزل موجودا فيكم. وإن كان الله تعالى قد أوجد فيكم قوة على ما أمركم به ، ولكن الضعف لم يزل ، فلعلمه تعالى بأحوالكم هذه ، ناسبت الحكمة الإلهية ، والجود الرباني ، أن يتغمدكم برحمته ومغفرته وعفوه ، ويغمركم بإحسانه ، ويزيل عنكم الجرائم والمآثم. خصوصا إذا كان العبد مقصوده مرضاة ربه في جميع الأوقات ، وسعيه فيما يقرب إليه في أكثر الآنات ، وفراره من الذنوب ، الّتي يمقت بها عند مولاه ، ثمّ تقع منه الفلتة بعد الفلتة ، فإن الله تعالى أكرم الأكرمين وأجود الأجودين ، أرحم بعباده من الوالدة بولدها. فلا بد لمثل هذا أن يكون من مغفرة ربه قريبا ، وأن يكون الله له في جميع أحواله مجيبا ، ولهذا قال تعالى : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) ، أي : تخبرون الناس بطهارتها ، على وجه التمدح عندهم. (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) فإن التقوى ، محلها القلب ، والله هو المطلع عليه ، المجازي على ما فيه من برّ وتقوى ، وأما الناس ، فلا يغنون عنكم من الله شيئا.
[٣٣ ـ ٣٧] يقول تعالى : (أَفَرَأَيْتَ) قبح حالة من أمر بعبادة ربه وتوحيده ، فتولى عن ذلك ، وأعرض عنه؟ فإن سمحت نفسه ببعض الشيء القليل ، فإنه لا يستمر عليه ، بل يبخل ويكدى ويمنع. فإن الإحسان ليس سجية له وطبعا ، بل طبعه التولّي عن الطاعة ، وعدم الثبوت على فعل المعروف ، ومع هذا ، فهو يزكّي نفسه ، وينزلها غير منزلتها ، الّتي أنزلها الله بها. (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) (٣٥) الغيب ، فيخبر به ، أم هو متقول على الله ، متجرىء عليه ، جامع بين المحذورين ، الإساءة والتزكية ، كما هو الواقع ، لأنه قد علم أنه ليس عنده علم من الغيب ، وأنه لو قدر أنه ادعى ذلك ، فالإخبارات القاطعة عن علم الغيب ، الّتي على يد النبي المعصوم تدل على نقيض قوله ، وذلك دليل على بطلانه. (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ) هذا المدعي (بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (٣٧). أي : قام بجميع ما ابتلاه الله به ، وأمره به ، من الشرائع ، وأصول الدين وفروعه.
[٣٨] وفي تلك الصحف ، أحكام كثيرة ، من أهمها ما ذكره الله بقوله : (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) (٣٩) ، أي : كل عامل ، له عمله الحسن والسيّء ، فليس له من عمل غيره وسعيه شيء ، ولا يتحمل أحد