ولا ينافيه صحيحه الآخر (١) عنه أيضا « رجل كانت عليه دراهم لإنسان فوهبها له ثم رجع فيها ثم وهبها له ثم هلك قال : هي الذي وهب له » إذ الرجوع بعد الهبة إنما كان في كلام السائل مضافا إلى عموم الأدلة التي لا ينافيها ما دل على اعتبار القبض في الهبة ، إذ الموهوب هنا مقبوض للموهوب له ، باعتبار كونه في ذمته ، فهو حينئذ كهبة ما في يده بل أقوى.
ولذا لم يجز الرجوع فيها ضرورة اقتضاء صحتها سقوط المال عن ذمته لعدم تعقل ملك الإنسان على نفسه شيئا نحو غيرها من أسباب النقل كبيع الدين على من هو عليه ، وغيره ، فيكون ذلك بمنزلة تلف المال الموهوب الذي هو ملزم للهبة.
ومن هنا قال المصنف صرفت إلى الإبراء على معنى اتحادها معه في المفاد لا أن المراد بلفظ الهبة الإبراء ، فإن ذلك خارج عن المقام الذي هو هبة ما في الذمة ، ومن المعلوم أنها من أسباب التمليك كالبيع ونحوه لا الإسقاط ولكنها تفيد مفاد الإبراء بالطريق الذي عرفت.
ومن هنا كان المتجه اعتبار القبول فيها وإن قلنا إنه لا يشترط الإبراء القبول على الأصح وفاقا للأكثر بل المشهور ، وخلافا للمحكي عن الغنية والسرائر بل والمبسوط وإن كنا لم نتحققه ، بل المحكي عنه التصريح بكون الأقوى عدم الاشتراط ، وإن كان الاشتراط قويا أيضا كالراوندي في فقه القرآن.
وعلى كل حال فالمذهب الأول ، لصدق الاسم بدونه ، ولأنه إسقاط ، ولذا عبر عنه بالعفو في قوله تعالى (٢) ( إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ ) إلى آخره وللنصوص المتكثرة (٣) في إبراء المديون حيا مع عدم حضوره وميتا ، ولغير ذلك.
لكن المقام من العقود التي لا بد فيها من القبول ، وإن كان هي بعد تمامها تفيد مفاد الإبراء ، كالصلح وبيع الدين على من هو عليه ، وبذلك ظهور لك حقيقة الحال على وجه لا يخفى عليك التشويش في جملة من كلماتهم التي بعضها ظاهر في كون البحث في التعبير عن الإبراء
__________________
(١) الوسائل ـ الباب ـ ١ ـ من أبواب أحكام الهبات الحديث ـ ٢.
(٢) سورة البقرة الآية ٢٣٧.
(٣) الوسائل ـ الباب ـ ١٤ ـ من أبواب الدين.