إتجاهين متباينين ، هما اتجاه الحديث ، ومركزه المدينة المنورة ، واتجاه الرأي ، ومركزه الكوفة ، فألغى الأول اتجاه الرأي ، وتوقّفت النصوص الشرعية إلى حدّ الجمود على ظواهرها ، بينما الاتجاه الثاني بالغ باستخدام الرأي ، وتشدّد في قبول الحديث ، فضيّق دائرة العمل بالحديث ، وتبع ذلك التوسّع في الأخذ بالقياس.
ولا شك أن تضيق دائرة الحديث هو من تداعيات الحظر على تدوين الحديث وروايته الذي فرضته السلطة بعد وفاة الرسول صلىاللهعليهوآله ، الأمر الذي جعل بعض الفقهاء ينأى بنفسه عن مصادر التشريع الأصيلة المتمثلة بالكتاب والسنة ، ويلجأ إلى اعتماد عناصر جديدة في استنباط الأحكام الشرعية ، وهي القياس والرأي والاستحسان والعرف والمصالح المرسلة التي دخلت بقوة في خط الاجتهاد حتى بلغت ذروتها على يد أبي حنيفة (١) الذي اشتهر بكثرة القياس في الفقه.
وقد وقف الإمام الباقر وأولاده المعصومون عليهمالسلام من بعده بوجه هذه القواعد الاجتهادية ، وقاوموا اجتهاد الرأي ، وتصدوا لتفنيد آراء ومزاعم القائلين بها ، من خلال ما يلي :
أولاً : التأكيد على أن النصوص الشرعية تفي بتزويد الفقيه ما يحتاج إليه ، أو بعبارة أخرى التأكيد على شمولية الكتاب والسنة لحاجات الإنسان كلّها ، بل وحتى لما يطرأ عليها من مسائل في المستقبل ، قال الإمام الباقر عليهالسلام : «إن اللّه تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأمة إلاّ أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله صلىاللهعليهوآله ، وجعل لكل شيء حداً وجعل عليه دليلاً يدل عليه ، وجعل على
__________________
(١) النعمان بن ثابت ، المتوفى سنة ١٥٠ هـ.