والظاهر أنّه وفاقيّ بل قيل إنّهم نقلوا الإجماع على اشتراط بقاء الاجتهاد ، وعليه فلو عرضه مرض يختلّ به ملكته أو إدراكاته أو ملكته وإدراكاته معا لم يجز البقاء على تقليده بل يجب العدول إلى غيره ، وقضيّة اشتراط بقاء الاجتهاد أن يشترط بقاء حياته إذ لا يعقل بقاء الاجتهاد مع عدم بقاء الحياة.
ومن هنا يتوجّه الإشكال إلى القائلين بعدم اشتراط حياة المفتي أو عدم اشتراط بقاء حياته من حيث إنّ بقاء الاجتهاد منوط ببقاء الحياة وزوال الحياة يستلزم زوال الاجتهاد والواسطة بينهما غير معقولة ، فإنّ الموت أشدّ وأصعب من جميع ما يمكن فرض عروضه من الأمراض ، وإذا أمكن اختلال الإدراكات بعروض المرض فاختلالها بعروض الموت بطريق أولى.
وممّا يرشد إلى ذلك أنّ الإدراكات الحاصلة حال الحياة إنّما حصلت بواسطة آلات هي القوى الحيوانيّة والإنسانيّة المنوطة ببقاء تعلّق الروح بالبدن ، فإذا انقطع التعلّق بمفارقة البدن انعدمت هذه القوى جزما ومعه كيف يصحّ بقاء الإدراكات؟
ويؤيّد ذلك أيضا ما قيل : من أنّ الموت ليس إلاّ فناء الأخلاط الأربعة.
ومن المعلوم بالوجدان والتجارب وتصريح أهل الخبرة أنّ لبعضها مدخليّة في الإدراك حدوثا وقوّة وضعفا ، فإنّ خلط الصفراء يوجب جودة الذهن وسرعة الانتقال ، والسوداء توجب الحفظ ، والبلغم يوجب البلادة وبطؤ الانتقال فغناؤها يوجب زوال الإدراكات ، وممّا يشهد أيضا بأنّ القوّة الحيوانيّة والإنسانيّة لها مدخليّة في الإدراك أنّه كلّما قويت هذه القوى قوي الإدراكات وكلّما ضعفت ضعفت الإدراكات كما في حالة الهرم ، فإنّه إذا تكامل قد يبلغ بالإنسان إلى أن يعود إلى حالة الطفوليّة فينتقص عقله ويختلّ فهمه ، وتضعف قواه وملكاته ، وتزول علومه وإدراكاته ، وتعود معلوماته إلى مجهولات ، كما يشير إليه قوله عزّ من قائل : ( وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً ).
فقضيّة هذا كلّه اختلال إدراكات المجتهد بالموت وعدم بقائها لا محالة ، لا على معنى أنّ الروح بعد مفارقة البدن لا إدراك له ، بل بمعنى أنّ إدراكاته الحاصلة حال الحياة غير باقية بعد الممات.
فالقول بعدم اشتراط بقاء الحياة يؤول إلى القول بعدم اشتراط بقاء الاجتهاد ، وانتظر لتتمّة الكلام في ذلك في مسألة تقليد الميّت.