ومن العجائب أنّ السّكّاكي إنّما ارتكب في مثل رجل جاءني ذلك الوجه البعيد لئلّا يكون المبتدأ نكرة محضة ، وبعضهم يزعم أنّه عند السّكّاكي بدل مقدّم لا مبتدأ وانّ الجملة فعليّة لا اسميّة ، ويتمسّك في ذلك بتلويحات بعيدة من كلام السّكّاكي ، وبما وقع من السّهو للشّارح العلّامة في مثل زيد قام ، وعمرو قعد ، إنّ المرفوع يحتمل أن يكون بدلا مقدّما ، ولا يلتفت إلى تصريحاته بامتناع تقديم التّوابع حتّى قال الشّارح العلّامة في هذا المقام أنّ الفاعل هو الّذي لا يتقدّم بوجه ما. وأمّا التّوابع فتحتمل التّقديم على طريق الفسخ ، وهو أن يفسخ كونه تابعا ويقدّم ، وأمّا لا على طريق الفسخ فيمتنع تقديمها أيضا لاستحالة تقديم التّابع على المتبوع من حيث هو تابع فافهم.
[ثمّ لا نسلّم (١) امتناع أن يراد بالمهرّ شرّ لا خير] كيف (٢) وقد قال الشّيخ عبد القاهر قدّم شّرّ ، لأنّ المعنى أنّ الّذي أهرّ من جنس الشّرّ لا من جنس الخير.
______________________________________________________
كون المسند إليه مؤخّرا في الأصل على أنّه فاعل معنى ، ويفهم منه أنّه لا سبب للتّخصيص سوى اعتبار التّقديم في المنكّر ، وحاصل الرّدّ : إنّ التّخصيص لا ينحصر بذلك الوجه البعيد.
(١) هذا الكلام من المصنّف ردّ لما ادّعاه السّكّاكي من انتفاء تخصيص الجنس في نحو شرّ أهرّ ذا ناب. وملخّص الرّدّ : إنّ الهرير هو عبارة عن مطلق صوت الكلب ، والكلب يصوت تارة للشّرّ ، وأخرى للخير ، إلّا أن يقال : بأنّ المهرّ لا يكون إلّا شرّا ، فالحقّ حينئذ مع السّكّاكي ، ويمكن الجمع بين القولين بأنّ المراد من الهرير إن كان هو النّباح الغير المعتاد ، فلا يصحّ تخصيص الجنس لأنّه من علامات الشّرّ ، ولا خير فيه أصلا ، وإن كان المراد مطلق الصّوت يصحّ تخصيص الجنس.
(٢) أي كيف يكون تخصيص الجنس ممنوعا «وقد قال الشّيخ عبد القاهر قدّم شرّ ، لأنّ المعنى أنّ الّذي أهرّ من جنس الشّرّ لا من جنس الخير» وهذا الكلام منه صريح في تخصيص الجنس ، فيمكن أن يكون المهرّ خيرا بالنّسبة إلى صاحب الكلب لا بالنّسبة إلى الكلب نفسه.
هذا تمام الكلام في الجزء الأوّل من كتابنا (دروس في البلاغة) ويليه الجزء الثّاني إن شاء الله.