هذا ما اقتضته المسالمة مع القوم في تحديد مبدأ إسلامه عليهالسلام ، وأمّا نحن فلا نقول : إنّه أوّل من أسلم بالمعنى الذي يحاول ابن كثير وقومه ؛ لأنَّ البدأة به تستدعي سبقاً من الكفر ، ومتى كفر أمير المؤمنين حتى يسلم؟ ومتى أشرك بالله حتى يؤمن؟ وقد انعقدت نطفته على الحنيفيّة البيضاء ، واحتضنه حِجْر الرسالة ، وغذّته يد النبوّة ، وهذّبه الخُلُق النبويُّ العظيم ، فلم يزل مقتصّا أثر الرسول قبل أن يصدع بالدين الحنيف وبعده ، فلم يكن له هوىً غير هواه ، ولا نزعة غير نزعته ، وكيف يمكن الخصم أن يقذفه بكفر قبل الدعوة؟ وهو يقول ـ وإن لم نر صحّة ما يقول ـ : إنَّه كان يمنع أمّه من السجود للصنم وهو حملٌ (١).
أيكون إمام الأمّة هكذا في عالم الأجنّة ، ثمّ يدنِّسه درن الكفر في عالم التكليف؟ فلقد كان ـ صلوات الله عليه ـ مؤمناً : جنيناً ، ورضيعاً ، وفطيماً ، ويافعاً ، وغلاماً ، وكهلاً ، وخليفةً.
ولولا أبو طالبٍ وابنُهُ |
|
لما مَثُلَ الدينُ شخصاً وقاما |
بل نحن نقول : إنَّ المراد من إسلامه وإيمانه وأوّليّته فيهما وسبقه إلى النبيِّ في الإسلام هو المعنى المراد من قوله تعالى عن إبراهيم الخليل عليهالسلام : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (٢). وفيما قال سبحانه عنه : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٣). وفيما قال سبحانه عن موسى عليهالسلام : (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (٤) : وفيما قال تعالى عن نبيِّه الأعظم : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) (٥). وفيما قال : (قُلْ إِنِّي
__________________
(١) ذكر حديثه في السيرة الحلبيّة : ١ / ٢٨٥ [١ / ٢٦٨] ، سيرة زيني دحلان [١ / ٩١] ، نور الأبصار : ص ٧٦ [ص ١٥٦] ، نزهة المجالس : ٢ / ٢١٠. (المؤلف)
(٢) الأنعام : ١٦٣.
(٣) البقرة : ١٣١.
(٤) الأعراف : ١٤٣.
(٥) البقرة : ٢٨٥.