أمّا عدم تعيين أهل الاختيار ، فإن أراد عدم تعيّنهم فذلك بهتان عظيم ؛ لأنَّ الموجودين في الصدر الأوّل في عاصمة الإسلام المدينة المنوّرة الذين تصدَّوا لتعيين الخليفة هم أهل الحلِّ والعقد ، وكان أكثرهم موجودين إلى ذلك العهد ، وأمّا من توفّي منهم فقد قيّضت الظروف من بعدهم من يسدُّ مسدّهم ، فإن يكن هؤلاء مفوَّضاً إليهم أمر الخلافة بادئ بدء ، فهم المفوَّض إليهم أمرها مهما تناقلت الخلافة ، فليس لأحد أن يختار من دون رضاً منهم ، وإنَّ هؤلاء القوم تعيِّنهم الظروف والأحوال والمقتضيات المكتنفة بهم ، ولا يعيِّنهم نصٌّ من الكتاب أو السنّة.
وإن أراد عدم تعيين هؤلاء الخليفة من بعد معاوية ، فإنَّ ظرف التعيين ساعة موت الخليفة لا قبله. نعم ؛ قد تنعقد الضمائر على انتخاب من يرون له الأهليّة في إبّان الانتخاب ، وما أدرى معاوية أنَّهم سوف يهملون أمر الأمّة ساعة هلاكه؟ ولما ذا تفرّد بالانتخاب من دون رضاً منهم؟ ولما ذا خضّع أفراداً من القوم بالتخويف وآخرين بالتطميع؟ ومتى أبعد انتخابه الاختلاف الذي هو شرٌّ على الأمّة؟ وفي الملأ الدينيِّ أممٌ ينقمون منه ذلك ، وجموعٌ ينتقدونه ، وشراذم يضمرون السخط ولا يتظاهرون به حذار بادرته. نعم ؛ هناك زعانفةٌ اشتروا رضا المخلوق بسخط الخالق ، وأعمتهم الصرر والبِدر ، فأبدوا الرضا.
ولو كانت هذه الفكرة حسنةً جميلةً ، فلما ذا فاتت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حين دنت منه الوفاة؟ فلم يرحض عن أمّته معرّة الخلاف ، وترك المراجل تغلي حتى اليوم. وهل تُرى لو كان أوصى إلى معيَّن من أمّته بالخلافة يوجد هناك لأحد مطمع غير المنصوص عليه؟ ودعا سعد بن عبادة إلى نفسه؟ وقال قائل الأنصار : منّا أميرٌ ، ومنكم أميرٌ؟ وهتف هاتفٌ : أنا جُذيلها المحكّك (١) وعُذيقها المرجّب (٢)؟ وازدلف
__________________
(١) الجُذَيل : الأصل من الشجرة تحتكّ به الإبل فتشتفي به ، وعنى بذلك أنّ له رأياً وعلماً يشتفى بهما.
(٢) عُذيقها المرجّب : العذيق مصغّر عذق وهو النخلة بحملها. والمرجّب : ما يسند بالخشب ونحوه ليمنعه من السقوط. وهذا القول هو للحباب بن المنذر قاله يوم السقيفة ، وهو يريد أنّ له عشيرةً تمنعه وتحميه.