ظلِّ الاستعباد ، فلا نفس كبيرة تدفعه إلى الهرب من حياة الذلِّ ، ولا عقلٌ سليمٌ يعرِّفه مناخ الضعة ، ولا إحاطة بتعاليم الإسلام تلقِّنه دروس الإباء والشهامة ، ولا معرفة بعناصر الرجال ليعلم من نفسيّاتهم الكمّ والكيف ، فلا عرف يزيد الطاغية حتى يعلم أنَّه لا مقيل له في مستوى الخلافة ، ولا عرف حسين السؤدد والشرف والإباء والشهامة ، حسين المجد والإمامة ، حسين الدين واليقين ، حسين الفضل والعظمة ، حسين الحقِّ والحقيقة ، حتى يخبت إلى أنّ من يحمل نفساً كنفسه لا يمكنه البخوع ليزيد الخلاعة والمجون ، يزيد الاستهتار والفسوق ، يزيد النهمة والشره ، يزيد الكفر والإلحاد.
لم ينهض بضعة المصطفى إلاّ بواجبه الدينيِّ ، فإنّ كلّ معتنقٍ للحنيفيّة البيضاء يرى في أوّل فرائضه أن يدافع عن الدين بجهاد من يريد أن يعبث بنواميسه ، ويعيث في طقوسه ، ويبدِّل تعاليمه ، ويعطِّل أحكامه ، وإنّ أظهر مصاديق كلّيٍّ تنطبق عليه هذه الجمل هو يزيد الجور والفجور والخمور ، الذي كان يُعرف بها على عهد أبيه ، كما قال مولانا الحسين عليهالسلام لمعاوية لمّا أراد أخذ البيعة له : «تريد أن توهم الناس ، كأنّك تصف محجوباً ، أو تنعت غائباً ، أو تخبر عمّا كان ممّا احتويته بعلم خاصّ ، وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه ، فخذ يزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة (١) عند التحارش ، والحمام السبّق لأترابهنَّ ، والقينات ذوات المعازف (٢) وضروب الملاهي ، تجده ناصراً ، دع عنك ما تحاول ، فما أغناك أن تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه» (٣).
وقال عليهالسلام لمعاوية أيضاً : «حسبك جهلك! آثرت العاجل على الآجل». فقال معاوية : وأمّا ما ذكرت من أنَّك خير من يزيد نفساً ، فيزيد ـ والله ـ خير لأمّة محمد
__________________
(١) المهارشة : تحريش بعضها على بعض. (المؤلف)
(٢) المعازف جمع معزف : آلات يضرب بها كالعود. (المؤلف)
(٣) الإمامة والسياسة : ١ / ١٥٣ [١ / ١٦١]. (المؤلف)