ربّما يرتج القول في المترجَم وأمثاله ، فلا يدري القائل ما ذا يصف ، أيُطريه عند صياغة القول؟ أو يصفه عند قيادة العسكر؟ وهل هو عند ذلك أبرع؟ أم عند هذا أشجع؟ وهل هو لِجُمَل القوافي أسبك؟ أم لأزِمّة الجيوش أملك؟ والخلاصة أنّ الرجل بارع في الصفتين ، ومتقدِّمٌ في المقامين ، جمع بين هيبة الملوك ، وظرف الأدباء ، وضمّ إلى جلالة الأمراء لطف مفاكهة الشعراء ، وجمع له بين السيف والقلم ؛ فهو حينما ينطق بفم كما هو عند ثباته على قدم ، فلا الحرب تروعه ، ولا القافية تعصيه ، ولا الروع يهزمه ، ولا روعة البيان تعدوه ، فلقد كان المقدّم بين شعراء عصره ، كما أنّه كان المتقدّم على أمرائه ، وقد تُرجم بعض أشعاره إلى اللغة الألمانيّة ، كما في دائرة المعارف الإسلاميّة.
قال الثعالبي في يتيمة الدهر (١) (١ / ٢٧) : كان فرد دهره ، وشمس عصره أدباً وفضلاً ، وكرماً ونبلاً ، ومجداً وبلاغةً وبراعةً ، وفروسيّةً وشجاعةً ، وشعره مشهور سائر بين الحسن والجودة ، والسهولة والجزالة ، والعذوبة والفخامة ، والحلاوة والمتانة ، ومعه رواء الطبع ، وسمة الظرف ، وعزّة الملك ، ولم تجتمع هذه الخلال قبله إلاّ في شعر عبد الله بن المعتز ، وأبو فراس يُعدُّ أشعر منه عند أهل الصنعة ، ونَقَدَةِ الكلام ، وكان الصاحب يقول : بُدئ الشعر بملك وختم بملك ، يعني امرأ القيس وأبا فراس.
وكان المتنبّي يشهد له بالتقدّم والتبريز ، ويتحامى جانبه ، فلا ينبري لمباراته ، ولا يجترئ على مجاراته ، وإنّما لم يمدحه ومدح من دونه من آل حمدان تهيّباً له وإجلالاً ، لا إغفالاً وإخلالاً ، وكان سيف الدولة يعجب جدّا بمحاسن أبي فراس ، ويميِّزه بالإكرام عن سائر قومه ، ويصطنعه لنفسه ، ويصطحبه في غزواته ، ويستخلفه على أعماله ، وأبو فراس ينثر الدرّ الثمين في مكاتباته إيّاه ، ويوافيه حقّ سؤدده ، ويجمع بين أدبي السيف والقلم في خدمته. انتهى.
__________________
(١) يتيمة الدهر : ١ / ٥٧.