طلب منه ركوب السفينة وأبى ، وأنّ من سبق علم الله بأنه لا يركب السفينة من الناس فهو ظالم ، أي كافر ، وأنه مغرق ، فكان عدم ركوبه السفينة وغرقه أمارة أنه كافر. فالمعنى : أن نوحا ـ عليهالسلام ـ لا يجهل أنّ ابنه كافر ، ولذلك فسؤال المغفرة له عن علم بأنه كافر ، ولكنّه يطمع لعل الله أن يعفو عنه لأجل قرابته به ، فسؤاله له المغفرة بمنزلة الشفاعة له عند الله تعالى ، وذلك أخذ بأقصى دواعي الشفقة والرحمة بابنه.
وقرينة ذلك كله قوله : (وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) المفيد أنه لا رادّ لما حكم به وقضاه ، وأنه لا دالة عليه لأحد من خلقه ، ولكنه مقام تضرّع وسؤال ما ليس بمحال.
وقد كان نوح ـ عليهالسلام ـ غير منهيّ عن ذلك ، ولم يكن تقرر في شرعه العلم بعدم المغفرة للكافرين ، فكان حال نوح ـ عليهالسلام ـ كحال النبي صلىاللهعليهوسلم حين قال لأبي طالب «لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنك» قبل أن ينزل قوله تعالى : ما كان للنبي (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) [التوبة : ١١٣] الآية.
والاقتصار على هذه الجمل الثلاث في مقام الدعاء تعريض بالمطلوب لأنه لم يذكره ، وذلك ضرب من ضروب التأدب والتردد في الإقدام على المسئول استغناء بعلم المسئول كأنّه يقول : أسألك أم أترك ، كقول أميّة بن أبي الصلت :
أأذكر حاجتي أم قد كفاني |
|
حياؤك أن شيمتك الحياء |
ومعنى (أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) أشدهم حكما. واسم التفضيل يتعلق بماهية الفعل ، فيفيد أن حكمه لا يجوز وأنّه لا يبطله أحد.
ومعنى قوله تعالى : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) نفي أن يكون من أهل دينه واعتقاده ، فليس ذلك إبطالا لقول نوح ـ عليهالسلام ـ : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) ولكنّه إعلام بأنّ قرابة الدين بالنسبة لأهل الإيمان هي القرابة ، وهذا المعنى شائع في الاستعمال.
قال النابغة يخاطب عيينة بن حصن :
إذا حاولت في أسد فجورا |
|
فإني لست منك ولست منّي |
وقال تعالى : (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ) [التوبة : ٥٦].
وتأكيد الخبر لتحقيقه لغرابته.