وقد حصل النهي عن الأعم بعد النهي عن العامّ ، وبه حصلت خمسة مؤكدات : بالأمر بعد النهي عن الفساد الخاص ، ثم بالتّعميم بعد التخصيص ، ثم بزيادة التعميم ، ثم بتأكيد التعميم الأعم بتعميم المكان ، ثمّ بتأكيده بالمؤكد اللفظي.
وسلك في نهيهم عن الفساد مسلك التدرج فابتدأه بنهيهم عن نوح من الفساد فاش فيهم وهو التطفيف. ثم ارتقى فنهاهم عن جنس ذلك النوع وهو أكل أموال الناس. ثم ارتقى فنهاهم عن الجنس الأعلى للفساد الشامل لجميع أنواع المفاسد وهو الإفساد في الأرض كلّه. وهذا من أساليب الحكمة في تهيئة النفوس بقبول الإرشاد والكمال.
وإذ قد كانت غاية المفسد من الإفساد اجتلاب ما فيه نفع عاجل له من نوال ما يحبه أعقب شعيب موعظته بما ادّخره الله من الثواب على امتثال أمره وهو النفع الباقي هو خير لهم مما يقترفونه من المتاع العاجل.
ولفظ (بَقِيَّتُ) كلمة جامعة لمعان في كلام العرب ، منها : الدوام ، ومؤذنة بضده وهو الزوال ، فأفادت أن ما يقترفونه متاع زائل ، وما يدعوهم إليه حظ باق غير زائل ، وبقاؤه دنيوي وأخروي.
فأمّا كونه دنيويا فلأن الكسب الحلال ناشئ عن استحقاق شرعي فطري ، فهو حاصل من تراض بين الأمة فلا يحنق المأخوذ منه على آخذه فيعاديه ويتربص به الدوائر فبتجنب ذلك تبقى الأمّة في أمن من توثّب بعضها على بعض ، ومن أجل ذلك قرن الأموال بالدماء في خطبة حجة الوداع إذ قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام» فكما أن إهراق الدماء بدون حق يفضي إلى التقاتل والتفاني بين الأمة فكذلك انتزاع الأموال بدون وجهها يفضي إلى التواثب والتثاور فتكون معرّضة للابتزاز والزوال. وأيضا فلأنّ نوالها بدون رضى الله عن وسائل أخذها كفران لله يعرّض إلى تسليط عقابه بسلبها من أصحابها. قال ابن عطاء الله : «من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها ومن شكرها فقد قيّدها بعقالها».
وأمّا كونه أخرويا فلأنّ نهي الله عنها مقارن للوعد بالجزاء على تركها ، وذلك الجزاء من النعيم الخالد كما في قوله تعالى : (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا) [مريم : ٧٦].
على أنّ لفظ (البقية) يحتمل معنى آخر من الفضل في كلام العرب ، وهو معنى الخير