الناس في قوله : (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [سورة إبراهيم : ١] ، فإنهم بعد أن أجمل لهم الكلام في قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) [سورة إبراهيم : ٤] الآية ، ثم فصّل بأن ضرب المثل للإرسال إليهم لغرض الإخراج من الظلمات إلى النور بإرسال موسى ـ عليهالسلام ـ لإخراج قومه ، وقضي حق ذلك عقبه بكلام جامع لأحوال الأمم ورسلهم ، فكان بمنزلة الحوصلة والتذييل مع تمثيل حالهم بحال الأمم السالفة وتشابه عقلياتهم في حججهم الباطلة وردّ الرسل عليهم بمثل ما ردّ به القرآن على المشركين في مواضع ، ثم ختم بالوعيد.
والاستفهام إنكاري لأنهم قد بلغتهم أخبارهم ، فأما قوم نوح فقد تواتر خبرهم بين الأمم بسبب خبر الطوفان ، وأما عاد وثمود فهم من العرب ومساكنهم في بلادهم وهم يمرون عليها ويخبر بعضهم بعضا بها ، قال تعالى : (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ) [سورة إبراهيم : ٤٥] وقال : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [سورة الصافات : ١٣٧].
(وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) يشمل أهل مدين وأصحاب الرس وقوم تبّع وغيرهم من أمم انقرضوا وذهبت أخبارهم فلا يعلمهم إلا الله. وهذا كقوله تعالى : (وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) [سورة الفرقان : ٣٨].
وجملة (لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) معترضة بين (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) وبين جملة (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) الواقعة حالا من (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) ، وهو كناية عن الكثرة التي يستلزمها انتفاء علم الناس بهم.
ومعنى (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ) جاء كلّ أمة رسولها.
وضمائر (فَرَدُّوا) و (أَيْدِيَهُمْ) و (أَفْواهِهِمْ) عائد جميعها إلى قوم نوح والمعطوفات عليه.
وهذا التركيب لا أعهد سبق مثله في كلام العرب فلعله من مبتكرات القرآن.
ومعنى (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) يحتمل عدة وجوه أنهاها في «الكشاف» إلى سبعة وفي بعضها بعد ، وأولاها بالاستخلاص أن يكون المعنى : أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم إخفاء لشدة الضحك من كلام الرسل كراهية أن تظهر دواخل أفواههم. وذلك تمثيل لحالة الاستهزاء بالرسل.
والردّ : مستعمل في معنى تكرير جعل الأيدي في الأفواه كما أشار إليه «الراغب».