كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) الآية ، فكذا جعل قوة العقل والمعرفة غاية وجود الإنسان والغرض منه ، إذ ليس فضل الإنسان بقوة الجسم ، فالفيل والبعير أقوى منه أجساما ، ولا بطول البقاء في الدنيا ، فالنسر والفيل أطول منه عمرا ، ولا بقوة الغضب وشدة البطش ، فالأسد والنمر منه أشد بطشا ، ولا باللباس والزينة ، فالطاوس والدراج أحسن منه لباسا ، ولا بقوة النكاح ، فالحمار والعصفور أقوى منه نكاحا ، ولا بكثرة الذهب والفضة ، فالمعادن والجبال أكثر منه ذهبا وفضة ، وما أحسن قول الشاعر.
لو لا العقول لكان أدنى ضيغم |
|
أدنى إلى شرف من الإنسان |
لما تفاضلت النفوس ودبرت |
|
أيدي الكماة عوالي المران |
وليس فضل الناس على غيره بعنصره الموجود منه ، كما زعم إبليس اللعين حيث قال : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) ، بل ذلك بما خصه الله تعالى من المعنى الذي ضمنه فيه ، والأمر الذي أعطاه له وبه استحق سجدة الملائكة ، فأشار إليه بقوله تعالى : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) ، والملئكة لما تنبهوا بذلك فأذعنوا وسجدوا له ، كما أمرهم الله ، وإبليس لما نظر ظاهر آدم ومبدأ أمره تغلظ وتعامى فيما ذكره الله تعالى ، ولم يتأمل المعنى الذي ضمنه الله فيه ، والعاقبة التي حوله الله إليها (أَبى وَاسْتَكْبَرَ) ، وقد اقتدى بإبليس الكفار في رد الأنبياء حيث «قالوا (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) ، وقوله : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) ، ونبه الله تعالى أن الاعتبار بفضلهم ليس بظاهر أبدانهم ، وإنما ذلك لمعنى مستودع في نفوسهم تعمى الكفار عنها فقال : (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) ، أي لا يعرفون ما فضلهم الله به (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) ... (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) ..