وبالجملة فذات الإنسان من حيث ما اجتمع قوى جميع الموجودات صار معدن آثارها ومجمع حقائقها ، مستودعا فيه معاني العالم ، وكأنه مركب من جماد ونبات وبهائم وسباع وشياطين وملائكة ، ولذلك يظهر في شعار كل واحد منها ، فيجري تارة مجرى الجمادات في الكسل وقلة التحرك والانبعاث ، وعلى هذا نبه بقوله : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) ، وقد يظهر في شعار النباتات الجميلة والذميمة ، فيصير إما كالأترج في لونه وطيبه وطعمه ، أو كالنخل والكرم في المنافع ، أو كالحنظل في خبث المذاق ، وكالكشوث (١) في عدم الخير ، وعلى هذا نبه بقوله : (مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً) و (مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ) الآية ، ويظهر تارة في شعار الحيوانات المحمودة أو المذمومة ، فيصير إما كالنحل في كثرة منافعه وقلة مضاره وفي حسن سياسته ، كما في قوله تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) الآية ، او كالخنزير في الشره ، او كالذئب في العيث (٢) ، أو كالكلب في الحرص ، أو كالنمل في الجمع والادخار ، او كالفأرة في السرقة ، أو كالثعلب في المراوغة (٣) ، أو كالقرد في المحاكاة ، أو كالحمار في البلادة ، أو كالثور في الأكل ، وإلى هذا النحو من المشابهات دل بقوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) ، ويظهر تارة في صفات الشياطين ويسول الباطل في صورة الحق كما دل بقوله تعالى : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً).
وأفضل قوة فيه التي بها يستحق خلافة الله في العالم هي القوة العقلية ، وأشرف صفاتها التي بها يفوق على الملائكة كلها هي العلم والحكمة ، كما جعل الله النبات زبدة العناصر والحيوان زبدة النبات ، وجعل الإنسان سلالة العالم وزبدته ، وهو المخصوص بالكرامة ، كما قال : (وَلَقَدْ
__________________
(١) نبات مجتث مقطوع الأصل وهو أصفر يتعلق بأطراف الشوك وغيره والذي يركب النباتات الزارعية.
(٢) عاث الذئب في الغنم أي أسرع في إفساده.
(٣) خادعه أي على وجه المكر.