لقوله : (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) ، ثم يصير إنسانا بشريا متفكرا متصرفا في الأمور ، لقوله : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) ، وقوله : (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) ، ثم يصير إنسانا معنويا ذا نفس ناطقة ، لقوله : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) ، ثم يصير إن ساعده التوفيق والعناية جوهرا قدسيا وروحا إلهيا ، لقوله : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ).
وأول ما يظهر فيه قوة النزاع الموجودة في النبات والحيوان وهو الميل إلى الملائم ميلا بالطبع ، ثم قوة تناول الموافق ودفع المخالف ، وهي قوة الشهوة والنفره ، ثم الإحساس ثم التخيل ثم التصور ثم التفكر ثم التعقل النفساني التفصيلي ثم العقل البسيط الإجمالي ، لكنه لم يصر إنسانا إلا بالفكرة وبالعقل الذي به يتميز في الجملة بين الحلال والحرام في الأفعال ، وبين الخير والشر في الذوات ، والجميل والقبيح في الصفات ، وهو أول درجة الإنسانية.
وإلى العقل أشار بقوله تعالى : (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) ، فالإنسان صار بعقله معدن العلم ومركز الحكمة ، ووجود العقل فيه في ابتداء الأمر بالقوة ، كوجود النار في الحجر المحتاج في أن يوري إلى القدح وكوجود النخل في النواة المحتاج في أن يثمر إلى غرس وسقي ، ونفس الإنسان واقعة بين عالمين عالم الملكوت وعالم الملك ، بل بين قوتين قوة العقل وقوة الشهوة ، فبقوة الشهوة يحرص على تناول اللذات والمشتهيات البهيمية والسبعية ، وبقوة العقل يحرص على تناول العلوم الحكمية والأفعال الجميلة ، وإلى هاتين القوتين أشار بقوله : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) ، والأغلب على أكثر الناس هي قوة الشهوة والميل إلى الدنيا ، ولذلك قال تعالى : (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) ، ولذلك قال صلىاللهعليهوآله : حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ، ولأجله لا يستغني أكثر الناس في سلوك طريق الآخرة عن سياسة قاهر زاجر إياه ، حتى ورد أنه قال عليهالسلام : يا عجبا لقوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل.