ليست ذاته هذه البهيمة الآكلة الشاربة الناكحة المائتة ، وما علم أن هذه البهيمة الحيوانية هي قشر ذاته ، ولها لب هو روحها وروحها أيضا قشر وله لب هو روح روحها وهو محبوب الحق ، كما قال : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) ، ومعلوم عند أهل البصيرة أن محبوب الحق ما ذا يمكن أن يكون ، وأن محب الحق ما ذا يمكن أن يكون ، فإن الشيء لا يحب إلا ذاته ، ولا يحبه أيضا إلا ذاته ، فمن أحب غير الله فقد رغب عن ملة إبراهيم ، حيث إنه قال حكاية عن حاله (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) ، وأيضا لا جهل أعظم من جهل الإنسان نفسه لاستلزام ذلك جهله بربه ، قال تعالى : (نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) ، وهو بمنزلة عكس النقيض لقوله صلىاللهعليهوآله : من عرف نفسه فقد عرف ربه ، وفي الحكمة العتيقة «من عرف ذاته تأله ، فمن جهل نفسه فقد ظلم على نفسه غاية الظلم» ، (أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) و (ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ).
واعلم أن علم النفس بذاتها حيث لا يمكن إلا بحضور ذاتها لها ، فتحصيل هذه المعرفة لا يمكن ولا يتصور إلا بتبديل الوجود الظلماني النفساني إلى الوجود النوراني الروحاني ، وفي قوله صلىاللهعليهوآله : إن الله خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره ، فمن أصابه ذلك النور فقد اهتدى ، إشارة إلى هذا المطلب ، فإن الظلمة إشارة إلى ذوات الأشخاص النفسانية الظلمانية قبل خروجها من القوة إلى الفعل ، ومن الظلمة إلى النور ، ومخرج الأشياء من الظلمات إلى النور هو الله تعالى ، والنور هو الفيض الوارد على النفوس القابلة ، الخارجة به من الظلمات إلى النور ، كما تخرج القوة البصرية بإشراق النور الشمسي عليها من القوة إلى الفعل ، فيصير به مبصرة بالفعل بعد ما كانت مبصرة بالقوة.
إذا تقرر هذا فنقول : لما عرض الله الأمانة على المخلوقات فكل مخلوق لم يكن منورا برشاش نور الله ما عرف شرف الأمانة وما قصدها ، أما الأجسام فلبعد مناسبتها ، وأما أرواح الملائكة وغيرهم فلأنهم لم يكن لهم راحلة تحملها بقوة الظلومية والجهولية ، فما قصدوا وما عرفوا حق المعرفة ، (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها) لخطر حملها ، (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) لأجل