لم يقع الإحساس بهذا التنين وما يجري مجراه من حيات الآخرة ومؤذياتها ولدغها وإيلامها لخدر الطبيعة وغشاوة الحس الظاهري ، وأن تلك الحيات والمؤذيات ليست لها صور خارجة عن ذات الميت ، أعني صميم قلبه وعين باطنه ونفسه المصورة في القيامة بصورة أخلاقه وأعماله ، وقد مرت الإشارة إلى أن الصور المحسوسة بما هي محسوسة بالذات متحد بالجوهر الحاس ، بل الروح هي بالحقيقة الحساس اللامس الذائق الشام ، وهي التي يتألم ويلتذ ويتنعم ويتعذب في الدنيا والآخرة جميعا ، لكن في الدنيا مع غواش وظلمات وملابس ، وهي خالصة يوم القيامة ، فصورة هذا التنين كانت مع الكافر المنافق قبل موته أيضا متمكنة من باطنه ، لكن لم يكن شاعرا بهذه الحيات ورءوسها ومباديها وصورها وموادها المعنوية ، لخدر حسه وغشاوة طبعه وأمور شاغلة له عن دركها ، وحجب حاجبة إياها عن بصيرته ، لغلبة الشهوات والأغراض ، فما أحس بلدغ هذا التنين (١) وعدد هذه الحيات التي عددها بقدر عدد الشهوات وعدد رءوسها بقدر عدد الأخلاق النفسانية الرديئة التي هي مبادي الشهوات.
قال بعض العلماء : أصل هذا التنين حب الدنيا التي هي رأس كل خطيئة ، ويتشعب منه رءوس بعدد ما يتشعب من حب الدنيا من الأخلاق الذميمة وما يتبعها من الشهوات ، وأصل هذا التنين معلوم بنور البصيرة ، وكذا كثرة رءوسه ، وأما انحصاره فيما ورد في الحديث المذكور فإنما توقف عليها بنور النبوة لا غير ، فهذا التنين متمكن من صميم فؤاد الكافر لا لمجرد كفره بالله وجهله البسيط ، بل لما يدعوه إليه كفره من حب الدنيا ، كما قال : (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ).
__________________
(١) ـ لسعه.