بالقياس إلى الأطوار الأخروية ، ولهذا المعنى يصح أن يقال إنهما واقعتان تحت جنس المضاف ، وإليه الإشارة بقوله (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) ، فكل من علم أن هذه النشأة الدنيوية من أوائل تكوناته الطبيعية الواقعة فيه على التدريج ، يعلم أن ذاته متوجهة دائما من نشأة أدنى إلى نشأة أخرى ، وأن له أطوار مختلفة بعضها بعد بعض ، على سبيل منازل السفر إلى الله تعالى بعض هذه المنازل في الدنيا وبعضها في الأخرى ، فأصل مادة وجوده من الدنيا ، وكذا صورته العنصرية ثم الصورة النباتية ثم الصورة الحسية كلها من الدنيا ، وبعد هذه الأطوار نشأة النفس ثم القلب والروح والسر والخفي ، وما وراء كلها من الآخرة (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً).
وأقوى البراهين عندنا في تحقيق النشأة الآخرة هو المأخوذ من إثبات الغاية في الحركات الطبيعية سيما الحركة الجوهرية الإنسانية ، لأنها واقعة في جميع الحدود الإمكانية من أدونها ، كالنطفة بل التراب إلى أعلاها إذا قطع بها القوس الصعودية كلها ، ولهذا وقع هذا السياق من البرهان في كثير من آيات القرآن مثل قوله ، (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ، يعني (كُنْتُمْ أَمْواتاً) قبل ولوج الروح الحيواني فيكم كسائر النباتات والجمادات ، (فَأَحْياكُمْ) بهذه الحياة الحسية ، (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عن هذه الحياة الطبيعية بإفادة الحياة النفسانية الروحانية ، (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) بحياة أخرى قدسية ، وقوله حكاية عمن قال في جواب من قال ، (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) ... ، (قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ ، مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) ، وقوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) ، إلى هنا من الأطوار الدنياوية ، ولا بد لهذه الحركة الذاتية من غاية في الطبيعة ، وإلا لكانت عبثا وباطلا ، وتلك الغاية لا بد أن يكون أمرا خارجا عن حدود الدنيا لوقوع المرور على مراتبها كلها ، والغاية بالضرورة خارجة عن حدود المسافة ومراحلها ، فهي من منازل الآخرة ، وهي لا تحصل إلا