واعلم أن الناقد بصير لا يقبل منك إلا الخالص من ذهب المعرفة وفضة الطاعة ، فوزن حسناتك بميزان صدق ، واحسب حساب نفسك قبل أن توافي عمرك ، وقبل أن يحاسب عليك في وقت لا يمكنك التدارك والتلافي ، فالموازين مرفوعة ليوم الحساب وفيه الثواب والعقاب (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ).
وأما القول في ميزان الأعمال ، فاعلم أن لكل عمل من الأعمال الحسنة كالصلاة والصيام والقيام وغيرها ، باعتبار تأثيره في النفس وتخليصها من أسر الشهوات وتطهيرها عن غواسق الطبيعة وجذبها من الدنيا إلى الآخرة وإصعادها عن المنزل الأدنى الأسفل إلى المحل الأرفع الأعلى مقدارا معينا وقوة معينة ، وكذلك لكل عمل من الأعمال السيئة قدرا معينا من التأثير في أظلام جوهر النفس وتكثيفها وتكديرها وتعليقها بالدنيا وشهواتها وتقييدها بسلاسلها وأغلالها ، وكل ذلك محجوب عن مشاهدة الخلق في الدنيا ، وعند وقوع القيامة ينكشف لهم ، لأجل رفع الحجاب وكشف النقاب حقيقة الأمر في ذلك ، فكل أحد يرى غاية عمله وسعيه في الدنيا والآخرة ، وقوة انجذابه إلى النعيم والجحيم ، ويرى ثقل أحد جانبي ميزانه ورجحان أحد كفتي ميزانه رفعا ووضعا ، وبالجملة كل واحد من أفراد الناس له تفاريق أعمال ، إما حسنات أو سيئات أو مختلفات ، فإذا جمعت يوم القيامة متفرقات حسناته أو سيئاته كان إما لأحدهما الرجحان أو لا ، فإن كان الرجحان للأولى كان من أهل السعادة وإن كان للثاني كان من أهل الشقاوة ، ومن استوت حسناته وسيئاته كان متوسطا بين الجانبين حتى يحكم الله فيه ، وهاهنا قسم آخر أرفع من الثلاثة ، وهم الذين استغرقوا في شهود جلال الله ولا التفات لهم إلى عمل صالح أو سيئ فكسروا كفتي ميزانهم وخلصوا من عالم الموازين والأعمال إلى عالم المعارف والأحوال وأنوار الجمال والجلال.
فنقول من الرأس : كل أحد ما لم يتخلص ذاته بقوة اليقين ونور