المنافر ، فإن لكل من هذه التسعة عشر مدخلا في إنارة نار الجحيم التي منشؤها ثوران حرارة جهنم الطبيعة وشهواتها التي هي نيرانات كامنة اليوم عن نظر الخلائق ، وستبرز يوم القيامة بحيث يراها الناس محرقة للجلود مذيبة للأبدان ، قطاعة (نَزَّاعَةً لِلشَّوى تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى) ، (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً)» ، والإنسان ما دام كونه محبوسا في الدنيا بهذه المحابس الداخلية والخارجية التي باطنها مملوءا بنار الجحيم ، مسجونا بسجن الطبيعة مقبوضا أسيرا في أيدي المدبرات العلوية التسعة عشر ، والمؤثرات السفلية التسعة عشر ، لا يمكنه الصعود إلى عالم الجنان ودار الحيوان ومنبع الروح والريحان ، فهو لا يزال معذب بعذاب الجحيم محترق بنار الحميم مقيد بالسلاسل والأغلال كالأسارى والعبيد ، وحاله كما أفصح الله عنه بقوله : (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) ، لعدم استكمال نفسه بالعلم والعمل ، ليصير كالأحرار خلاصا عن الأسر والقيد ، ولذا وقع التعليل بترك العلم والعمل في قوله : (إِنَّهُ) أي لأنه (كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) ، فالأول إشارة إلى ترك العلم ، والثاني إلى ترك العمل الصالح ، فإذا انتقل من هذا العالم إلى عالم الآخرة التي هي في داخل حجب السماوات والأرض كما مر ينتقل من السجن إلى السجين ، وكان هاهنا أيضا مسجونا محاطا بالجحيم ، ولكن لا يحس بألم السجن وعذاب الحبس ، (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) ، فإذا كشف عنه الغطاء أحس بذلك وانتقل العذاب من باطنه في الدنيا إلى ظاهره في الآخرة ، فيؤديه المالك إلى أيدي هذه الزبانية التسعة عشر التي هي من نتائج تلك المدبرات الكلية ، فيتعذب في الآخرة بها ، كما كان يتعذب بها في الدنيا من حيث لا يشعر ، ومن كان على هدى من ربه مستويا على صراط مستقيم صراط الله (الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) ، فيسلك سبيل الله بنور الهداية بقدمي العلم والعمل يصل إلى دار السلام ويسلم من هذه المعذبات والمهلكات ، ويتخلص عن رق الدنيا وأسر الشهوات ، (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ).