إلى حد العقل بالفعل ، وهو جوهر عقلي نوراني فيه صور جميع الموجودات على وجه مقدس ، وهو نور يتراءى فيه الأشياء كما هي وإنما يحصل له هذا العقل البسيط والنور الشريف بالنظر في حقائق الموجودات والتدبر في آيات الله الكائنة في الأرض والسماوات لا بالإعراض عنها كما قال : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) ومما يدل على وجوب النظر والتفكر واكتساب الحكمة والمعرفة قوله : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وقوله : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) وفي هذه الآية دلالة على أن حياة الإنسان بعد الموت والمفارقة عن هذه النشأة الزائلة بالمعارف والتصديق بحقائق الأشياء كما هي ، وقوله : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ).
وهذا السير المأمور به ليس إلا السير الفكري والحركة المعنوي دون تعب الجوارح ، وستعلم بيان ما أشرنا إليه من أن بناء النشأة الآخرة للإنسان وعمارتها إنما هي بما يتقرر في نفسه من صور الاعتقادات ، وقوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) ثم إنه قد مدح الله الناظرين في ماهيات الأشياء والمتفكرين في خلق السماوات والأرض والذاكرين لله من ملاحظة آثار صنعه وجوده في مواضع كثيرة : كقوله (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وقوله تعالى (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً ، وَعَلى جُنُوبِهِمْ ، وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) والإشارة إلى العروة الوثقى والعمدة العظمى في التقرب إلى الله والفوز بالسعادة الأخروية ، هي اقتناء العلم والمعرفة دون مجرد العمل والطاعة ، وإن كان العمل الصالح وسيلة إليه ، وأنها هي الثمرة والغاية والعمل كالزرع وهي النتيجة والعمل كالمقدمة وهي المخدومة والسلطان ، والعمل كالخادم والعبد والأجير ، قال : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) وقال : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ) وقال تعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).